كان أجدادنا يقولون: “من امتلك قوته امتلك حريته”، وهي حكمة عربية خالدة تختصر فلسفة الأمن الغذائي قبل أن يُولد كمصطلح سياسي أو اقتصادي. فالأرض التي تُطعم أهلها تمنحهم القرار، ومن يفقد زمام قوته الغذائية يصبح تابعًا لغيره ولو امتلك كل أدوات السلطة. ولهذا ظلت الزراعة عبر التاريخ رمزًا للسيادة وعمادًا للاستقرار السياسي والاجتماعي.
وانطلاقًا من هذه القاعدة، يصبح واضحًا أن السياسات الزراعية ليست مجرد إجراءات تنظيمية، بل دعامة استراتيجية تهدف إلى حماية الموارد وتعظيم الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي. ولذلك فإن التشريعات الزراعية الحديثة تُعد حجر الزاوية في أي نهضة حقيقية، لأنها تضبط العلاقة بين الأرض والمياه والفلاح والسوق، وتحول العمل الزراعي من جهد فردي إلى منظومة إنتاجية قومية.
وتأتي حماية الرقعة الزراعية في مقدمة التشريعات الضرورية، فالأرض هي الرصيد القومي الذي لا يُعوَّض إن فُقد. ومن جهة أخرى، فإن تطوير القوانين المنظمة لاستخدام المياه والري الحديث يمثل ضرورة ملحّة في ظل محدودية الموارد وتغير المناخ. ولهذا تتجه الدول المتقدمة زراعياً نحو تشريعات ملزمة بالتحول للري الذكي، وترشيد الفاقد، وتوظيف التكنولوجيا في المتابعة والتحكم.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن الاكتفاء الذاتي لا يتحقق بالإنتاج فقط، بل باستدامته وضمان عائد عادل للمنتج. ومن هنا تأتي أهمية السياسات السعرية العادلة للمحاصيل الاستراتيجية، وتيسير الحصول على مستلزمات الإنتاج، وتفعيل أدوات الحماية من الإغراق، حتى يظل الفلاح قادرًا على الزراعة دون أن ينهكه السوق أو يهدده الخسارة.
وفي السياق ذاته، يمثل الربط بين البحث العلمي والتطبيق الحقلي نقلة نوعية في تطوير القطاع الزراعي. فحين تتحول التوصيات البحثية إلى تشريعات تنفيذية، يصبح التطوير مؤسسيًا لا عشوائيًا. ومن ثم، فإن تمكين الجامعات والمراكز البحثية من نقل المعرفة للميدان الزراعي بدعم تشريعي هو الطريق لتحسين الجودة ورفع القدرة التنافسية للمحاصيل.
كما تُعدّ التعاونيات الزراعية إحدى الأدوات الداعمة للاكتفاء الذاتي، لأنها تخفف الأعباء عن المزارع وتقلل من تحكم الوسطاء في حركة السوق. وكلما تم تحديث تشريعات التعاونيات بحيث تصبح كيانات إنتاجية وتسويقية وتمويلية حقيقية، ازدادت فرص الاستقرار والاستقلال الغذائي داخل المجتمع الزراعي المحلي.
ولا يكتمل هذا البناء دون الاهتمام بالبنية اللوجستية التي تحفظ المحصول بعد الحصاد، مثل التخزين المبرد والمناطق التسويقية والمجمعات اللوجستية القريبة من مناطق الإنتاج، وهي بدورها تتطلب تشريعات استثمارية محفزة، تكفل الحد من الفاقد وتسهم في تثبيت الأسعار على مدار العام.
وبناءً على هذا التكامل، تتبلور رؤيتي بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي لن يتحقق إلا عبر ثلاثية متوازنة: تشريعات صارمة لحماية الأرض والمياه، وسياسات اقتصادية داعمة للمنتج المحلي والتصنيع الزراعي، وآليات واضحة لربط البحث العلمي بالتطبيق الحقلي. فعندما تتكامل هذه المحاور في سياق واحد، تتحول الزراعة إلى مشروع وطني متين، يرسخ السيادة الغذائية، ويمنح الدولة القدرة على صياغة مستقبلها بعيدًا عن التبعية أو الضغوط الخارجية.
إن الزراعة ليست قطاعًا اقتصاديًا فحسب، بل ضمانة وجودية للدولة؛ فحين نزرع قوتنا نحصّن قرارنا، وحين نصون أرضنا نحمي مستقبل أجيالنا، لنظل كما قال الأقدمون: أمة لا تستجدي غذاءها، بل تصنع أمنها بيدها.
د. ثروت إمبابي يكتب: الاكتفاء الذاتي بين قوة التشريع وفاعلية السياسات الزراعية
