قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

تراجيديا الطوائف والأقليات والفرار ..14 إضاءة نقدية على "ظل الدرفش"

صورة تذكارية للحضور
صورة تذكارية للحضور

مائدة بحثية ثرية شهدتها مكتبة مصر العامة بالدقي، لتحليل عمل روائي لافت هو "ظل الدرفش" للكاتبة مريم هرموش، الصادر في القاهرة عن دار بدائل للنشر، وهي المائدة التي ضمت أكثر من 14 من صفوة النقاد والمبدعين والمفكرين.

بعد ترحيب السفير رضا الطايفي مدير صندوق مكتبات مصر العامة بالمشاركين وتقديمه تحليلًا لما يشير إليه عنوان الرواية الباعث على طرح التساؤلات، قال: لقد أسعدني الحظ بقراءة رواية "ظل الدرفش" واستوقفني فيها منذ اللحظة الأولى الذكاء في اختيار عنوانها الذي كان في حد ذاته محفزًا لي للبحث. وبدأت الإجابة تتكشف بين ثنايا الأحداث ليتبين ان "الدرفش" هو رمز ديني مقدس عند طائفة الصابئة المندائيين، وهو يرمز للطهارة، ويجسد النور.
 وأضاف: حافظت مريم هرموش في روايتها هذه على أسلوبها المتميز بالسرد البديع وبرصانة العبارات وشاعريتها، وإن كانت مغلفة بحزن دفين يدمي القلب. إنها رواية ممتعة سردًا وأسلوبًا وبلاغة وتشويقًا، وهي قوية بما حملت سطورها من أفكار وقضايا وتجارب إنسانية ما بين اغتراب الوطن، وصقيع الغربة في المهجر، وحنين جارف للوطن الطارد.
وتحدثت مؤلفة الرواية قائلة: رأيت أن تكون ندوتنا موجهة للنقاد والأكاديميين والمفكرين والأدباء، على سبيل التحديد، لإيماني بأن الإنسان لا ينمو إلا بما يتلقاه من توجيه ورأي صادق من المتخصصين، وأن النص- أي نص- يحتاج إلى مَنْ يقرأه بعيون خبيرة، من زوايا مختلفة متعددة.
وروايتي الأحدث "ظل الدرفش" جاءت بعد رحلة طويلة من البحث المتأمل والمتأني، رافقها كثير من التردد، لكنه كان ترددًا يحمل في أعماقه إيمانًا ثابتًا برسالة شعرت أن علي أن أحملها. فقد أردت من خلالها أن أُسمِعَ صوت "يحيى"، ذلك الصوت الذي ظل صامتًا زمنًا أطول مما ينبغي، حتى كاد يفقد طعم ما أنجزه طوال الحياة التي قطعها على طريق شاق لم يكن أمامه إلا أن يسلكه.
فحاولت أن أنطق بلسانه لأقول، كما قال الكبير نجيب محفوظ: "الخوف لا يمنع الموت، ولكنه يمنع الحياة".
وأضيف إن داخل كل واحدٍ منا بذرة نجاة، مهما اشتدت العتمة، ومهما تعقدت الحياة.فشكرًا لمنح نصي وقتكم، وشكرًا لسماحكم لي أن أشارككم هذه اللحظة التي أتابع فيها كيف كان تلقي كل منكم لما كتبت.متمنية أن تكون مناقشتنا على هذه المائدة التي يرأسها السفير المثقف رضا الطايفي، فضاءً مشتركًا نحتفي فيه بالكلمة، ونفتح فيه أبواب الأسئلة على مصراعيها.
وبعدها يقدم السفير، أول المشاركين في المائدة من خارج مصر، الفنان التشكيلي والمترجم والناشر العراقي كامل السبتي، المهاجر إلى السويد منذ سنوات طوال، باعتباره مفجر شرارة هذه التجربة الروائية التي تقدم ما حدث لـ"يحيى" المندائيّ الذي حمل وطنه في قلبه أكثر مما حمله في حقيبته.
وهو الذي هرب من العراق محمّلًا بذكريات لا تهدأ، وبخوفٍ كان يكبر معه كلما تقدّم خطوة نحو النجاة.
رحل عبر طرق الهجرة الوعرة إلى: الأردن، فتركيا، فأثينا، وغابات أوروبا، وفي طريقه فقد زوجته وابنته في البحر، ذلك البحر الذي لم يغفر له، والذي ظل يعود إليه في أحلامه؛ وكأن القدر يذكّره بثمن النجاة. 
ويصل "يحيى" إلى السويد، إلى بلدٍ آمن لا يعرف عنه شيئًا، ليجد نفسه غريبًا بين ضفتين: ضفة ماضية تناديه بما فقد، وضفة جديدة لا تطمئنه بما وجد. وهكذا يبدأ صراعه الداخلي: صراع بين جسد نجا وروح ما زالت تغرق. 
يلجأ إلى جلسات العلاج النفسي، فيحاول أن يفكّ شيفرات الخوف التي تربّت في داخله، وتبدأ ذاكرته بالانفتاح على طفولته، طائفته، الحرب، الخدمة العسكرية، الحب، الفقد، وأسرار العائلة والبلد.
تدخل حياته شخصيات مثل زياد، مرّة كصديق ينقذه في الوطن، ومرّة كطبيب يعيد ترتيب روحه في الغربة، لتصبح النجاة سلسلة أيادٍ تمتد إليه في اللحظات الحرجة. 
وفي موازاة ذلك، يكتب يحيى صفحات من دفتره الخاص، يبوح فيها بما لا يقوله لأحد، وتشكّل هذه الصفحات قلب الرواية النابض وصوتها الداخلي الأكثر صدقًا. 
تتقدّم الرواية بين السياسة والوجدان، بين التاريخ والاعتراف، إلى أن يصل يحيى إلى اللحظة التي يعود فيها إلى بغداد بعد أكثر من عشرين عامًا، في هبوطٍ لا يشبه العودة بقدر ما يشبه هبوطًا في الذاكرة… حيث تتداخل أحلامه القديمة مع الخراب الجديد، ويكتشف أن الوطن تغيّر، وأنه هو نفسه لم يعد كما كان. 
"ظل الدرفش" ليست فقط رواية عن الهجرة، إنها رواية عن الصمت الطويل، وعن الخوف الذي يمنع الحياة، وعن محاولة ترميم إنسانٍ تاه بين ضفتين، لكنه ظل يبحث عن نفسه خلف كل ظل، وكل وجع، وكل كلمة لم تُقل في وقتها.
ويكون ثاني المتحدثين الكاتب الصحفي مصطفى عبدالله الذي يطلع الحضور على أنه التقى قبل أكثر من عامين هنا في القاهرة ببطل هذه الرواية في حضور الكاتبة مريم هرموش وأجرى معه حوارًا مطولًا عن الظروف التي كان يعيشها داخل العراق في عهد سابق، وكيف أنه وأسرته تعرضوا لظروف بالغة القسوة أدت إلى حتمية مغادرة العراق تحت جنح الظلام، وما أحاط بتلك المقامرة من مواقف مأسوية، وكيف أن مريم هرموش فكرت في أن تكتب عملًا روائيًا يستلهم تلك التجربة القاسية، وكيف أنه أمدها بتفاصيل مكنتها من كتابة تلك السيرة الغيرية، إلا أنها بعد أن عرضت مسودتها على الناقد الكبير الدكتور حسين حمودة قررت تمزيق العمل في هيئته الأولى، لتبدأ من جديد كتابة "ظل الدرفش" التي تستلهم السيرة ولكن لا تسجلها، فلا تصبح سيرة غيرية، وإنما عملًا فنيًا قوبل بتقدير بطل الأحداث عنه، بل ومباركته له.
ونقتطف من دراسة الدكتور حسين حمودة هذه الشهادة:
 لهذا النص ملامح ومعالم تجعل منه نصًا روائيًا بامتياز، قادرًا على ان يجاوز حدود انتمائه الاول إلى بعد "سيري غيري"، وقادرًا على ان يتخطى التجارب العابرة، وإن كانت عميقة وغنية ومؤثرة، إلى ما هو غير عابر، بل إلى ما هو أبدي تقريبًا في الأرواح الإنسانية التي تتوق إلى التسامح والأمان والانتماء، وأيضًا إلى حب الجمال.


أما الناقد الكبير الدكتور خيري دومة الأستاذ بجامعة القاهرة الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب هذا العام فيشير في ورقته إلى أنه قبل أن يبدأ الفصل الأول من حكاية يحيى يصادف القارئ عتبة جاءت على لسان يكاد يكون لسان البطل يحيى، بضمير المتكلم ومن داخل الرواية التي لم تبدأ بعد:
"ما شهدته عيناي، في ذلك اليوم المرير، جعلني ألعن اللحظة التي أطعت فيها والدي ورافقته حتى أرى ما رأيته! 
لا يزال حتى اليوم يجتاحني غضب عارم كلما تراءى ذلك المشهد في مخيلتي!
كم تمنيت أن أتخلص منه، علّي أستريح من عذاباتي، غضب مدفون بداخلي لا أستطيع البوح به، مخافة أن يصادف بوحي أحد أولئك الذين كانوا يهتفون يومها أمام الجثة المعلقة، عند رأس ذلك الجسر البعيد".
وهكذا تستحضر المؤلفة حتى قبل أن ندخل إلى عالم الرواية خلفية القمع والصمت والرعب الدموي المتنوعة الممتدة الجذور، التي سندخل إليها بعد قليل ونرى حكاياتها وكيف دفعت البطل وأسرته إلى الخروج. 
تحكي الرواية بطريقتها قصة يحيى الذي نشأ في أسرة عراقية من الصابئة، وكيف عاش في طفولته مع والده الثورة التي أطاحت بالملكية في العراق، وكيف مارست كل ألوان الرعب وكيف أمعنت في القتل، ثم كيف كانت مصائر إخوته، وكيف كبر هو وتزوج وأنجب ابنته "دانة"، ثم كيف أجبر على الخروج مع أسرته الصغيرة في رحلة تخترق الأرض والبحر، وكيف تحطم القارب الذي حملهم فغرقت زوجته وابنته أمام عينيه، ووصل هو إلى اليونان فاقدًا للوعي، وانتقل بعد أن أفاق إلى السويد عبر غابات مهولة وحكايات لا تنتهي، مدفوعًا بالخوف الملازم على الدوام، ثم كيف مارس هوايته في الرسم، وكيف عاد إلى بلده بعد غياب طويل فلم يجد شيئًا.
"ظل الدرفش" مرثية طويلة لأوطان أضاعها الخوف والقمع والصمت. هذه باختصار واحدة من روايات المنافي التي تكاثرت في العقود الأخيرة. والرواية بصورتها هذه رجع صدى لروايات كثيرة تبدأ بحي بن يقظان وروبنسون كروزو أصحاب الرحلة إلى المجهول وما واجهوا من شدائد وما صنعوا من حياة ظلت ناقصة حتى النهاية.
الإطار الذي يحكم الرواية في عمومها هو جلسات علاج نفسي تبدأ للراوي البطل في السويد، بعد أن تعرض لتجربة مهولة من الفقد، فقد الماضي كله، فقد الأهل، فقد الهوية التي ينتمي إليها.
أن أهم ما في هذه الرواية هو الطريقة التي صيغت بها، ولغة الشعر التي تسعى إلى التقاط الصامت وتجسيده. وربما يتحير القارئ أيهما أهم في هذه الرواية، الحكايات الكثيرة في رحلة الهجرة، أم العبارات الشعرية الغامضة التي يبدأ بها كل فصل، ويفيض بعضها بعد أن تنتهي الرواية فعليًّا، فتوضع تحت عنوان "بقايا الظل: من دفتر يحيى. الرسائل التي لم ترسل"، رسالة إلى محبوبة مجهولة ضاعت في التاريخ، رسالة إلى أخيه عماد الذي رحل قبله، ورسالة إلى أخيه نادر الذي قتل، ورسالة إلى أبيه الذي أورثه الصمت، ثم رسالة أخيرة إلى دانة درة القلب وظلي الأخير.
وقبل هذه الرسائل الأخيرة التي لم ترسل، سيقول لنا البطل الراوي وتحت عنوان "النهاية"، وباللغة نفسها التي تسيطر على عالم الرواية وتبطن أكثر مما تظهر، وتشير إلى الصمت والظل أكثر مما تشير إلى الكلام والضوء:
(لم أرد نورًا. أردت فقط أن يبقى الظل حيًّا، يدل على أنّا كنّا، وأننا ذات نهر، مشينا حفاة نحو شيء يشبه الخلاص، ان يلمح أحدهم بعدي أثر الدرفش على الماء، أو صدى صوت في عمق الغابة، يقول: مرّ يحيى من هنا، ولم يكن وحده. أنا لم أمت، أنا ظل الدرفش. أعيش لأني لم أقل كل شيء بعد).
وهكذا تتركنا الرواية بلغتها تلك وبعتباتها التي لا تنتهي، أمام سؤال المقموعين الصامتين الممسوحين من التاريخ، لكن ظلالهم وبقاياهم ستظل ماضية في الحديث؛ فالحكاية لم تنته بعد.
وتتوالى الإضاءات من: الكاتبة والمترجمة والمخرجة المسرحية السورية رولا عبيد، والمؤرخ والكاتب الدكتور طارق منصور الأستاذ بجامعة عين شمس، والفنان حسين نوح التشكيلي والكاتب والمنتج السينمائي، والدكتور إسحاق بندري، الكاتب والمترجم، والدكتورة بسمة الصقار الناقدة والباحثة في علم الآثار المصرية، والمخرج السينمائي يوسف ابو سيف، والمهندس علي قطب الكاتب والباحث الحائز على جائزة الدولة التشجيعية هذا العام، والقاصة الدكتورة منة الله سامي، محررة الأخبار بقناة النيل الدولية. ومن خارج مصر اشترك في أعمال هذه المائدة المفكر عيسى بيومي من هامبورج بألمانيا، والناقد الدكتور شريف الجيار، من جامعة صُحار بسلطنة عُمَان، والروائي أيمن السميري، صاحب رواية "شارع بن يهودا"، والناقدة التونسية مُنيَة قَارة بِيبان، رئيس رابطة الكُتَّاب الأحرار في بنزرت. بالإضافة إلى المخرج يوسف أبوسيف. وسنواصل التعرف على رؤاهم لهذا النص.