الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حقوق الحُروف وزكاة المُكَن عند رشاد كيلاني (2/2)


نستكمل ما بدأناه في المقال السابق، ونتحدث عن بعض مواقفه التي لا تنسى، ومواقفه الإنسانية.. وإبداعه في توجيه طاقات كثير من الناس إلى العمل الخيري والدعوي والإنساني.

كان الأستاذ الأديب رشاد كامل كيلاني (رحمه الله) من أصحاب الأفكار النهضوية.. ومن مواقفه التي لا تنسى، أنه حينما كان يسهر في المطبعة إلى قبيل الفجر، وكان يرى الحفر والتكسير في الطرق وغيره مما يؤذي الناس، فقرر أن يعالج العيوب اليسيرة من حفر وتكسير ومطبات مؤذية في الطرق، التي تكسر عربات الناس الغلابة، فأمر بعض العاملين معه بتجهيز سيارة نقل كبيرة، وجاء بعمال متخصصين، وبالمواد المخصصة لإصلاح الطرق (من أسمنت وزلط ورمل وأحجار... وغيرها) وجهَّزها من خلال مهندس خبير، بحيث تمر السيارة المجهزة بالعمال في مناطق الحفر التي تحتاج للإصلاح، وذلك بعد منتصف الليل –حتى لا يعطلوا السير- وينزل العمال بسرعة لإصلاح العيوب، ثم ينتقلون إلى منطقة أخرى.. وهكذا، منطلقا من قول الله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88) وكان يقول: "الدولة ها تعمل إيه ولا إيه، والدولة لما ترانا نعمل الحاجات الصغيرة ها تعمل هي الحاجات الكبيرة".

أخلاقه ومنهجه في الحياة:

وكان منهجه ينطلق من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (نضَّرَ اللهُ عبدًا سمع مقالتي فحفظَها فأدَّاها، فرُبَّ حاملُ فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حاملُ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ: إخلاصُ العملِ للهِ ومناصحةُ أئمةِ المسلمين ولزومُ جماعتِهم، فإنَّ دعوتَهم تحيطُ من وراءَهم) (أخرجه الترمذي).

وكان شعاره الذي أخذه عن والده، هو شعار النحلة العاملة..

أنفع الناس وحسبي أنني أحيا لأنفع

أنفع الناس ومالي غير نفع الناس مطمع

وشاءت إرادة الله أن يعيش الأديب رشاد كامل كيلاني في الدنيا اثنتين وثمانين سنة وسبعة أشهر ويومًا واحدا، أي (30164) يوما لم يتلفظ فيها بلفظ قبيح أو يتفوه بكلمة نابية، يقول أحد المقربين إليه وهو سكرتيره الخاص وتلميذه الأستاذ محمد القرشي: "عملتُ معه سبعة عشر عامًا، فما سمعت منه كلمة سوء أو كلمة نابية، أو كلمة خارجة.
 
ولما كان يُقال له "شِد على فلان شوية يا حاج رشاد"، فكان يقول: (اللين هو سبيلنا لتحقيق ما نصبو إليه، فالماء مع ليونته، يبلغ ما لا تبلغ النار في شدتها)، وكان يقول:

الوقت أنفس شىء في الوجود *** من حيث يمضي لا يعود"..

وكان يقابل الإساءة بمزيد من الإحسان، وأقصى ما كان يقوله عن الذي يؤذيه إنه "بوشت"، وهي كلمة فارسية تعني الظهر والسند والظهير والخلف، وكأنه يدعوه إلى أن يتقدم عن المكانة التي ينزلها إلى مكانة أرقى منها أخلاقيًّا..
ومن حسن حظي أن الله تعالى كتب لي أن أتعرف على الرجل عن قرب؛ فقد اتصل بي فضيلة المفكر الإسلامي الكبير أ.د/ إبراهيم أبو محمد المفتي العام الحالي لقارة أستراليا، منذ نحو سبعة عشر عامًا، وقال لي: "تعرَّف على الأستاذ رشاد كامل كيلاني، واقترب منه؛ لأنه طاقة من الخير تتحرك في كل اتجاه"، ومنذ ذلك الحين ولم تنقطع صلتي بالرجل حتى لقى ربه الرحيم..

وعندما كنت أسلط ناظريَّ في وجه الراحل العظيم، كنت أشعر بالراحة، وحينما كنت أسمع صوته أشعر أنَّ أبًا أو أُمًّا تطبطب على شغاف قلبي فأستريح نفسيًّا، وكنت أجد فيه البساطة والطيبة والرحمة، ولما كنت أجالسه أوقن أن الخير في أمة سيدنا محمد وسيظل يسري في أواصر المجتمع المسلم إلى يوم القيامة، ولمَ لا، وقد انحدر الرجل من بيئة العلم، والأدب، والتربية، والقرب من الله عز وجل..

من مواقفه الإنسانية:

بلغ من رقته ورفقه ورحمته أنه كان (رحمه الله) يُطعم الحمام واليمام والعصافير وغيرها من الطيور التي تطير في السماء، فقد خصص لها أماكن في كل مكان يملكه، وعلى الأخص في سطح مجمع سبيل الله، وفي سطح مطبعته، وفي سطح منزله في شارع فيصل... إلخ، وكان يقوم بملء المسقة، وتجهيز الطعام من قمح وغيره للطيور التي تطير في الهواء.. وفي مرضه كان يتصل بمن كلَّفهم برعاية هذه الطيور؛ ليطمئن على طعامهم!!.

وكان يتفقد أحوال العاملين معه ويتعرف على ظروفهم ويقف بجانبهم (في أفراحهم وأتراحهم.. في الوفاة.. في المواليد... وكان معطاء في شتى المناسبات والمواسم والأعياد). وكان دائمًا ما يردد قول الله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 20) وفي ذات الوقت يردد قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 93)، وكان ينفق ببذخ، ويقول: المال مال الله ونحن مستخلفون فيه.. ولابد أن نفقه في الدعوة إلى الله.

وما قصده أحد قط في أي مطلب أو معونة إلا وجد يده ممدودة له بجزيل العطاء.. وكان مَن يأتي له في كرب لا يتركه إلا وقد فرَّج عنه... ولما قيل له إن العدد في المجمع الإسلامي كبير فقال: (أنا لا أقطع رزق الله عمن يرزقني الله من أجلهم).

وكان يقول: إذا كنت متضايقًا فأكثر من الصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان لا يميز نفسه عن العمال العاملين معه، بل كان يعدهم أبناءه؛ فإذا شرب أو أكل، لابد أن يشربوا مما يشرب ويَطعَموا من نفس ما يطعم منه ومعه.. وكان أحيانا يترك سيارته بسائقها، ويستقل التاكسي؛ ليتعرف من السائق على أحواله وأحوال فئة السائقين، ويقيم علاقة طيبة مع سائقي التاكسي، ويعطهم أكثر مما يستحقون بكثير ليستقطبهم إلى مجمع سبيل الله، بعد أن يشرح لهم رسالة المجمع، وبفضل الله استطاع أن يزرع الخير في قلوبهم حتى صاروا جُنودًا في سبيل الله، ويعطيهم من الكتب والمصاحف واللوحات القرآنية ليقوم كل سائق بتوزيعها على المساجد ويعطيهم أجرًا كبيرًا على ذلك، ومن ثم استطاع أن يوجه طاقات كثير من أصحاب هذه المهن إلى العمل الدعوي والإنساني، وليتحولوا بفضل الله إلى جند مسخرين في كون الله...

ولقد حرص الراحل على نشر الفكر الإسلامي الوسطي، ودأب على التواصل مع كبار علماء الأمة، ومع قادة العمل الإسلامي في أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا، كما حرص على التوسع في أعمال الخير والبر والرحمة بالضعفاء.. وعزاؤنا أنه ترك تراثًا خالدًا ستظل الأجيال القادمة تنهل منه بإذن الله تعالى.. كما ترك من أبنائه البررة: المحاسب محمد والمهندس مجدي، والمحاسبة رجاء والمحاسبة رقية.. وأنا على يقين من أن أسرته الكريمة وعلى رأسها المهندس أمين كامل كيلاني، وأولاده وأحفاده، وأيضًا تلاميذه ومريدوه ومحبوه والعاملون معه، سيسيرون على دربه المبارك وعلى منواله الميمون.

ويبقى رشاد كامل كيلاني بمواقفه الشريفة وبقلبه الكبير رائدا ابن رائد في كثير من ميادين العقل والنفس والحياة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط