السبت باليابان هو بداية العطلة الأسبوعية، وبداية الانطلاق والمرح إن لم يكن لدي تجربة أرغب في إنهائها بالجامعة.
عادةً ما أقضي صباح هذا اليوم بالمولات مصطحبة ابني، خاصة إن كانت الأجواء باردة بالخارج ولا تُمكنِّي من الذهاب إلى الحديقة.
حين تدق الساعة العاشرة صباحًا تُفتح أبواب المول، عادة أذهب إلى مول أريو (له فروع كثيرة باليابان)، تسوقني رائحة الشاي الأخضر، والمنتشرة في كل الأنحاء كما لو كانت رائحة عطر جميل، ولهذا أبدأ التجول بشراء الشاي الأخضر (الماتشا) كم أعشقه! يُخيَّل إليَّ أن هذا المشروب لا يتجه إلى المعدة كباقي المشروبات بل يسلك طريقه إلى القلب مباشرةً، ثم يصل من خلال الشرايين والأوعية الدموية إلى كل خلية بالجسد فينعشها ويرخيها في آن واحد لا أعلم كيف!.
ثم تبدأ رحلة تجولي بالمول بشعور بالبهجة من التفاف الأطفال مع أسرهم حول الأكشاك الصغيرة المؤقتة والتي تتواجد فقط في أيام العُطلة، أكشاك لبيع غزل البنات الملونة بألوان لافتة من الأزرق والزهري ويتم وضعها في أكواب بلاستيكية، تؤكل بالشوكة، أكشاك أخرى تبيع الفشار الحلو والبلالين المُلَونة، أكشاك أخرى لبيع ألعاب أطفال بناء على التقاط الأطفال كروت الحظ والكارت الواحد بمئة ين يسحبه الطفل ويجني لعبته، في الواقع كان حظ ابني "زُمَّارة"، ولأن ابني لم يكن يعلم كيفية النفخ، استخدمتها أنا لأُفرغ غيظي بالنفخ فيها وأنا أجري وراءه لجذبه من مختلف الجهات بالمول قبل أن يفتعل الكوارث.
أشعر بأن المول يحتفل بالعُطلة كما لو كان يوم عيد من الأعياد، ربما لأن في العادة أرى الأماكن هادئة، غير مزدحمة؛ ولهذا أشتاق لبعض الزحام، أشعر بسعادة وأنا تائهة بين الوجوه السعيدة، أطفال وكبار، وتزداد سعادتي إن وجدت عجوزًا ممسكةً بيد رفيق عمرها وحولها أحفادها يمرحون، وحينما تتسع ابتسامتي يبادلني البعض من اليابانيين نفس الابتسامة خاصة لوجود ابني معي، وفي بعض الأحيان يبادل ابتسامتي نظرات الدهشة من اليابانيين، قد اعتدت هذه النظرات المندهشة لفتاة ملامحها تختلف عن اليابانيين، ولكن على كلٍّ مازالت تلك النظرات تُشعرني كم أنا مميزة.
أشعر كما لو كان الجميع يود امتصاص كل قطرةٍ من الإجازة على طريقته الخاصة، من جانب الأطفال يرغبون في تناول الحلوى من الأكشاك والآيس كريم ويلهون سويًا بين الألعاب ويركبون عربات القطار السعيد بداخل المول، ومن جانب آخر الآباء، أشعر بأنهم قد أنهكهم طلبات الصغار وبدأوا يشعرون بالتعب، في اعتقادي هم بحاجه إلى النوم ولكن للعائلة حقوق!.
من أجمل ما يقدمه مول آريو عروض الغناء لفرق يابانية تعرض أغاني كلاسيكية أو حديثة أو تقوم بالعزف الياباني، تلك العروض مشاهدتها مجانية على خشبة مسرح آريو، وفي بعض الأوقات تتحول نفس الخشبة إلى بازار لبيع مشغولات يدوية وإكسسورات أو ألعاب أو مستلزمات مكتبيه بأسعار رمزية تناسب العائلات.
وفي المكان المخصص للمطاعم بالمول تتواجد العديد من المقاعد للجميع بداخل المول (الفود كورت) مطاعم مختلفة من أكل ياباني تقليدي أو أكل إيطالي أو أمريكي، أتعجب كثيرًا مطعم ماكدونالدز لا يحوز ذات الشهرة العالية بجوار المطاعم اليابانية، في الحقيقة تعجبني جدًا المأكولات اليابانية والتي تعتمد على الأسماك والشوربة.
باليابان أتعجب من وضع الجمبري مع اللحوم المتنوعة مع الخضراوات والمعكرونة في إناء واحد، في الحقيقة، بعض الأسماك باليابان مثل الجمبري والسلامون ليست بها زفارة وأشعر أنها لا تحتاج إلى توابل وربما هذا ما جعل الأمر هيِّنًا بعض الشيء.
أرى الجميع على المقاعد يأكلون في صمت، الأعواد الخشبية تُمسك بطريقة معينة بحيث أن كل عود يوازي الآخر ولأن الطبق على الأغلب يحتوي على الشوربة والتي بداخلها تسبح المعكرونة والجمبري (وجبة اليودون) ألاحظ اليابانيين يُمسكون بملعقة مقعرة باليد اليسرى ليقوموا بجمع الشوربة بداخلها وحبس المعكرونه في طرف الطبق، واليد اليمنى ممسكةً بالعيدان الخشبية يلتقطون المعكرونة بمنتهى المهارة ولا تنزلق أبدًا، الجميع يتناول الطعام في هدوء واستمتاع كما لو كانوا يعزفون على آله الكوتو اليابانية، إنه استمتاع السبت الياباني.
وفي يوم سبت بالشهر الماضي خرجت لقضاء بعض الوقت أنا وصديقتي اليابانية والباحثة بنفس معملي وسألتها: كيف تقضين أيام عطلتك؟ قالت لي في النوم والنوم والنوم! تعجبت منها وظننت أنها سوف تفاجئني بالكثير من الأنشطة التي تمارسها كي أتعلمَ منها، قالت لي: أنا أرهق نفسي كثيرًا بالعمل وفي بعض الأيام أسهر بداخل المعمل من أجل إنهاء التجارب ولهذا حينما تحل العطلة، أحاول تزويد جسدي بالقدر الكافي من النوم حتى أتمكن من العمل طوال الأسبوع، وحينما ظهر عليّ الإحباط من ردها، استدرَكَتْ سريعًا قائلةً: أحيانا أقوم بدعوة أصدقائي لتناول الغداء معي ولكن بالبيت، في الحقيقة أحاول تقليل نشاطي قدر المستطاع، ابتسمت لها وقلت: أنا أُقدر فعلا هذا، نحن نبذل الكثير من الجهد في المعمل وأعلم ما تشعرين به، وقلت لها: على كلٍّ أنا محظوظة لأنني خرجتُ معكِ اليومَ، فهذه فرصة نادرة، ولا عجب في حياة الباحثين أنها دومًا حياة مرهقة تكاد تخلو من المرح، دومًا حياتنا تختلف عن الآخرين حتى في أوقات العطلة، ولكني أشكر ربي لأن ابني يجعلني دومًا أتذكر الخروج، فهو طفل يحب المرح.