الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

طفولة حقيقية تبدأ بعد الأربعين


فى ليلة كهذه؛ بحسب روايات متضاربة داخل الأسرة؛ ولدت أنا، باسم رسمي "حسين" نسبة لعم طيب مات قبل حضوري، وآخر أسري تناديني به أمى، هاتفها ملك به فى المنام حسب كلامها.


كعادة صغار كثيرين مضطهدين؛ كان الرد على أسئلة وجودى وأنا أصغر إخوتي "لقيناك على باب جامع"، سرعان ما مرت سنوات الصغر أذكر فيها جدة علمتنى الصلاة مع تعلمي المشي والكلام، كما كانت حلقة الوصل بيني وعائلتى متى انشغل عن ذلك الأم والأب، ولسنوات ظلت عقدة الاسم المزدوج تلاحقنى وأنا من ظللت "الرئيس" على زملائي فى المدرسة الhبتدائية، وتميزت فترة ولايتي بتعيين نائب لي، رغم أننى لم أتوقع عمرا لمعايشة ستة رؤساء بينهم انتقاليان.


كنت أكثر صراحة مع من حولى لدرجة أن دور عسكري الدرك الذى مارسته قليلا بأوامر "الأبلة" نادية وبعدها محاسن، كان يشهد اعترافي بحق نفسي لأنال وصلة ضرب بالعصى مع زملائي محدثي الدوشة للمدرسة النائمة داخل الفصل، وهكذا ظلت صراحتي مزعجة لكل من قابلتهم فى حياتي فصرت لا أطاق من أغلبهم فى حياة عائلية أو عمل أو دراسة.


لا تنازع صراحتي سوى تربية أبي لي على أن مالاً يخص أحدا لا يجوز لي امتلاكه خلسة بالضرورة، فلم أجد فى مال عام أو مال مجهول الصاحب استحلالا، فكانت ثورتي مختلفة الأسباب متى قامت يناير ويونيو وقبلهما انتفاضة ضد التمديد والتوريث، ومنها انطلقت صرختي مخترقة آذان حيتان وذئاب.


لم أفهم معني لضريبة الحق والحقيقة بعيدا عن كلمات مطمئنة للخالة الشهيدة الأديبة والكاتبة نفيسة قنديل؛ "إنها المحنة فلا تبك معها على سوء اختيار ولا تنتظر معها تقديرا وتصديقا من أقرب الناس إليك"، ربما دعمتنى كلماتها بعد قصمة ظهر نتجت عن وفاة أبي قبل 14 سنة، وضربة استهدفت هوية عائلة بكاملها برحيل الخال طبيب البسطاء فوزى قنديل.


بمضي السنوات؛ أصبحت أكثر تأملا فى الأشياء والأحداث زاهدا فى الدنيا غير متعلق بطموحات أو باكٍ على ما فات، أتذكر قوله تعالى "يقول ياليتني قدمت لحياتي"، فيزداد يقيني بأني ميت على ممر أو أن طول الرحلة يعني مشقة أكبر، هكذا سن التأمل عند الرجال الذي جاوزته الليلة بثلاث سنوات.


كلما مرت الأيام والسنون مللت مع ذكرى الميلاد عبارة "كل عام وأنت طيب"، لا أعتبرها تهنئة عن عمر منقوص لكننى أعزز نفسي بصغري وشعوري بحقيقة أن ما تبقي لا يستحق أن أحمل معه عبئا أكبر من طاقتي.


أحتاج إلى حالة مستمرة من الدلع والولع بالبسمة البريئة، عشتها فى نظرتي لشقيقتي هدى الراحلة قبل ربع قرن، وفاتناتها الثلاث الأقرب لقلبي بين كل من حولي، وأتشدق بها أمام قبر أبي حينما أزوره كل خريف أحكى له كيف أحاول أن أرفع اسمه عاليا كما وعدته، وأفهم أن الصدقة والفعل الطيب وكلمة الحق تطهرني من كل ذنب، ولا ألتفت لمن يعيب علي رغباتي ووجهتي.


عشت بين أصدقاء وزملاء وأقارب، عايشت من كان سيئ الظن بي ومن أساء النية تجاهي، لم أتزوج صراحة من أحببتها شابا ولم أسعد مع من تزوجتها بالضرورة، ولم أجد فى النساء سوى الحيرة ولم تستقم مع أغلبهن علاقتى لعدم إجادتي الكذب، وزهدت أخيرا هؤلاء وأولئك بعد أن صرت طفلا حقيقيا.


أدركت صراحة بعد نيف من السنوات أعقبت الأربعين؛ أن طفولتي تبدأ وبراءتي الحقيقية أعيشها وأباشرها بلا توجيه أو استعطاف أو جهل بقيمة غيري فى حياتى، هكذا وجدتني أكثر تقبلا لحقيقة عمري الأصغر؛ لا عمري المنقوص، وأكثر شعورا بالذات ولو عانيت أمورا لا يفهمها آخرون.


يتعجب مقربون لقولى أننى "صحفى مصري نازل المحطة الجاية ومش عاوز الباقى"، فهم فى مجتمع يرى الصحافة أقرب الطرق لعالم السلطة والثراء، ينهارون أمام صراحتى بأن "أمثالى من المشاغبين يموتون بالسكتة الدماغية والجلطات السريعة دون رقود أو بكاء منهم أو عليهم"، ولا يصدقون أن التصدعات التى تصيب كل معترف بالحقيقة أكبر من الحقيقة ذاتها.


من حقي أن أهنئ نفسي بطفولتى الجديدة والحقيقية بعد الأربعين، وأن أدعوكم لحفل بلا تورتة أو شموع، الليلة ولا بديل عنها يوم أسعدتكم بحضورى. تقبلوا ثقل دمى وظلي.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط