الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم المنشاوي يكتب: «الغربة» بين مرارة الحرمان وجني الآلام

صدى البلد


 



"الغربة".. كلمة قد تكون سهلة في التدوين والكتابة، صعبة في المعايشة، لم يفلت منها إلا ما رحم ربي، فهناك من يقرر أن يُغرّد خارج وطنه ليحقق حلمه الذي عجز عن تحقيقه على أرضه، في رحلة قاسية، ليس لها حدود أو سور يفصلك عن الألم والحزن، ولا حضن يحتويك من لوعة الفراق ومرارة الوحدة، ولا سقف يكسر حدة الخوف والقلق، بل ولا قلب هادئ مطمئن على أهلك وأحبابك، أو بال خالٍ من التفكير في صحة "أبنائك.. كبر سن والدتك.. مرض أبيك.. فقدان جدك أو جدتك".

فبمجرد أن تطأ قدمك أراضي الدولة التي قررت الهجرة إليها، يبدأ قلبك يتحسّر ألمًا على فراق أبنائك.. أهلك.. أحبابك.. زوجتك.. أصدقائك، وما هي إلا أيام قلائل وتبدأ دوامة العمل لتلهيك يومًا تلو الآخر، فتجبرك على التقصير مع هذا، ونسيان التواصل مع ذاك، وعدم الاطمئنان على آخر، كل هذا فقط من أجل جمع المال الذي يكفيك السؤال، أو يضمن لك "حياة كريمة".

ولا شك أن حينها سيكون حظك سيء إذا كانت تلك الرحلة من دون صديق، فستشهد فيها من المرارة ما يكفي، أولها: حينما تمرض، فستصبح بين نارين، نار المثابرة على المرض وعدم أخبار الأهل، ونار ألم التعب وما أحل بك، والوحدة القاتلة، فبعدما كانت تأتيك زيارات من هنا وهناك أثناء مرضك قبل الانطلاق في تلك الرحلة المظلمة، قد لا تجد من يحنو عليك الآن أو يخفف عنك حتى بالكلمة ـ ألف سلامة ـ.

الغريب أن الكل ينظر إليك، وقد يحسدك بعضهم، ويظن أنك تعيش وافر من السعادة، من دون أن يضع نفسه مكانك ولو للحظات، لحظات يتخيل فيها حرمانه من النظر في عين أمه، أو تقبيل يد والده، أو حضن من أطفاله، أيضًا حرمانه من احتساء القهوة مع صديق، حينها فقط ستشعر بفائض نعم الله عليك والعيش إلى جوار الأهل.

لك أن نتخيل، حجم الحسرة والندامة التي يشعر بها المسافرون في الغربة إذا غيّب الموت أحد من أهله، حينها بكل تأكيد سيشعر بالعجز والندم والألم والحزن، حينها أيضًا سيشعر بقيمة نظرة الوداع، ولوعة ألم البعد والفراق، فكم من هؤلاء الأشخاص يحلم باليوم الذي سيعود فيه إلى بيته، ولكن تلك هي الأقدار والأعمار.

والأصعب إن لم يكن الأسوأ أن يعود أحدهم جثة هامدة، حيث هناك من يصارع المرض حتى الموت، وآخر يفارق الحياة في حادث مؤسف، وغيره من تطاله يد الغدر والخيانة، ومنهم من تسطر نهايته على يد ذئاب بشرية، لا تسمع عن الرحمة، ولا تعرف للرأفة طريق.. وعن تلك الحوادث التي فقدنا فيها أشخاص بينهم القريب، أو الصديق، أو الجار "حدث ولا حرج".

الشاهد من كل هذا، أن الحياة التي مللت منها، يحلم بها غيرك، ووافر الصحة والسكينة والتقاء أهلك الذي تحول إلى عادة، هو حلم يطارد كل شخص في الغربة، ضجيج أبنائك، صوت يشتاق إليه كل من هاجر وسافر وترك أهله، فالسعادة لم تكن أبدًا في جني المال، فأرضّ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، ولا تنظر إلى ما في يد أحد، ولا تتمنى أن تعيش حياة غيرك، فلا تدري كيف هي، وما حجم المرارة التي تشوبها.

وبالتأكيد، أشعر أن لسان حال كل من في الغربة يردد تلك العبارات: "بعد سنين فى الغُرْبَة شافونى قالولي جايب إيه من برة.. قلت ياريتهم لو سألوني.. أنا في الغربة بكيت كام مرة.. جبت فلوس وياريت ياخدوها.. ويردولي شباب ضاع مني.. وسنين مت وهما عاشوها.. على إيه بس يا ناس حاسديني.. أنتم عشتم أحلى سنينكم.. وأنا في الغربة ماعشتش سني.. اتحملت يا ناس فوق طاقتي.. واتغربت في عز براءتي.. كتبوا لكل الناس عنوانها.. وأنا كتبولي غريب في بطاقتي.. ثمن الغربة دفعته بدمي.. بسنين فيها بعيد عن أمي.. وأما نويت أرجع علشانها.. رحلت لأجل تزود همي".