الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مولن الكبير


استمتعت كثيرًا في مرحلة من عمري بقراءة العديد من كتب الأدب وخصوصًا الأدب الفرنسي، حيث كانت دراستي للغة الفرنسية آنذاك خير عون لي، على التعمق في هذا النوع المتميز من الأدب، وأتذكر قصة مولن الكبير أو le grand meaulnes للكاتب الفرنسي الشهير Alain Fournier ، الذي قُتِل في الحرب العالمية الأولي.


رغم مرور العديد من السنوات على قراءتي لها ، إلا أنها مازالت دائما تجول في خاطري، ربما لارتباطها بمرحلة بداية تكوين الشخصية، والانتقال من مرحلة الطفولة لمرحلة الشباب، والانفتاح علي حياة المراهقين وأحلامهم ورغباتهم في إثبات الذات ، وتغيير الواقع.


أبرز شخصيات القصة هو الراوي  François Seurel الذي يحكي قصة Augustin Meaulnes الذي لُقِّبَ بمولن الكبير ، والذي كان زميلا له في الدراسة بمدرسة Sainte-Agathe في إحدى القري الفرنسية ، ثم أصبح مع الوقت أعز أصدقائه.


وشخصية مولن الكبير تمثل شخصية المراهق المغامر الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا وتضطره الظروف للذهاب إلى مدرسة في إحدى القري  فيؤثر على من حوله من الشخصيات ويأخذهم إلي عالم آخر بخبرات مختلفة عن تجارب حياتهم فتتحول الحياة إلي مغامرة كبيرة ومحاولة للهروب من الواقع والبحث عن الحب.


ويلتقي Meaulnes في إحدي حفلات الزفاف الغامضة والتي تنتهي بفرار العروس وتحول الفرح إلي الحزن بفتاةYvonne de Galais, فيقع في حبها ولكن ينتهي الحفل دون أن يعرف طريق الوصول إليها، حيث تختفي مع انتهاء الحفل عن عينيه دون أن يعرف قصتها.


ويعود Meaulnes إلى حياته المدرسية وتظل فكرة البحث عن فتاة أحلامه هي المحرك الأساسي له ولكنه يبحث عنها دون فائدة ، حتي يأتي اليوم الذي يلتقي فيه هو وصديقه بأحد الغجر الذي يساعده في الوصول إلي مكان الحفل حيث التقى بفتاة أحلامه التي كانت في الواقع أخت العريس الذي اختفت خطيبته في ليلة زفافهما ، ويلتقي Meaulnes بالعريس ويضع معه خطة لمحاولة إعادة الخطيبة المختفية، دون أن يعلم أن فتاة أحلامه هي أخت العريس المكلوم.


ويغادر Meaulnes القرية للدراسة في باريس بعد عدة سنوات من البحث عن الحبيبة ، وتمر الأيام دون أن يلتقي بصديقه François Seurel راوي القصة الذي أصبح معلمًا وبالصدفة يستطيع الوصول إلي طريق  ‏Yvonne de Galais ويبحث عن صديقه Meaulnes في باريس ليخبره بكيفية الوصول إليها.


يفرح Meaulnes بالوصول أخيرًا إلى طريق حبيبته ويتقدم للزواج بها فتقبل ، ولكنه بعد يومين من الزفاف يختفي ولا يستطيع أحد إيجاده، فيتقرب François من Yvonne، ويحاول مساعدتها بعد فقدانها الحبيب Meaulnes، فيتحول مع الوقت إلي صديقها المقرب ، وتمر الأشهر مسرعة دون أي أخبار عن Meaulnes، وتحمل Yvonne في أحشائها طفلتها الأولي، فتخبر François الذي يقرر الاعتناء بها  لحين عودة صديقه المقرب Meaulnes.


ثم تتوالي الأحداث ليجد François بالصدفة مذكرات Meaulnes والتي يعرف من خلالها أنه التقي أثناء وجوده برحلة في باريس بفتاة تدعي Valentine وأصبحت له علاقة قوية بها ، قبل أن يعرف أنها العروس الهاربة في بداية القصة، فيشعر بالندم ويقرر أن يفي بوعده ويعيدها إلي زوجها.


ويتدخل القدر فتموت Yvonne أثناء ولادتها لابنتها بالتهاب رئوي ، ثم يموت والد Yvonne بعد موت ابنته ببضعة أشهر ، فيهتم François بابنة صديقه لحين عودته، ثم يعود Meaulnes بعد عام ،ليعلم بنبأ موت زوجته ، بعد أن نجح في إعادة العروس الهاربة إلي شقيق زوجته المتوفاة، فيأخذ ابنته ويختفي من البلدة، تاركًا صديقه François وحده، الذي يظل عالقًا في ذهنه ، أن صديقهMeaulnes والذي يملؤه الغموض سوف يعود حتمًا يوما ما مع ابنته ليقوم بمغامرات جديدة.


والقصة تحمل في طياتها العديد من الرسائل الأخلاقية، فهي تتحدث عن الوفاء بصور متعددة، كالوفاء للصديق كما فعلFrançois ، وتحمله لمسئولية زوجة صديقه المختفي حتي وفاتها ثم تحمل مسئولية الطفلة الصغيرة حتي عودة أبيها، كما تتحدث عن الوفاء بالعهد الذي اختفي من أجله  Meaulnes ليعيد عروس شقيق زوجته إليه.


وتتحدث عن الحب الأول ومدي تعلق البطل بالحبيبة و محاولات البحث عنها حتي وجدها وتزوجها ولكنه رغمًا عن ذلك قرر أن يفي بالوعد رغم مرور الوقت إلا أنه كان يتمتع بأخلاق متميزة، تحتم عليه أن يكون وفيا لكلمته لأبعد الحدود ، حتي ولو كان علي حساب حياته وسعادته.


بالإضافة إلى سرد ممتع للصفات المختلفة التي يتمتع بها الانسان في تلك المرحلة العمرية، من غموض وسحر وتسرع وحب للمغامرة، وخصوصًا في العوالم المغلقة فأحداث القصة داخل قرية صغيرة ثم تتحول بعض الأحداث داخل العاصمة باريس بكل ما فيها من سحر وتحضر وانفتاح.


القصة ممتعة في قراءتها لأبعد الحدود، وتثبت في الأذهان، ورغم مرور أعوام كثيرة علي دراستي لتلك القصة إلا أنني لم أنسها يومًا فهي تبحر بالنفس في أعماق متدفقة، حيث المغامرة والحب النقي الذي يخلد مع الزمان، وأصالة المشاعر الحقيقية من حب ووفاء وإحساس بالمسئولية والبعد عن حب الذات المتسم بالأنانية، وهو ما نحتاجه اليوم في ظل انهيار المبادئ والأخلاق ، وسطوة المال وحب السيطرة علي الحياة، علي الرغم من غرابة رد فعل البطل لصغر سنه وعدم خبرته والذي كان يستطيع أن يخبر زوجته بضرورة وفائه للعهد وإشراكها في المغامرة.


أحيانا يخطئ الإنسان في حق من يحب، دون أن يشعر ويندم في النهاية فيكون الهروب من الواقع هو ملاذه الأخير، كما فعل بطل القصة في النهاية عندما فوجئ بتطور أحداث زوجته ووفاتها التي كانت بالنسبة له حلم الحياة الذي لم يحيه ووجود طفلة صغيرة تخصه، دون أن يعلم، فما كان رد فعله سوي الهروب، وترك صديقه الوفي ربما لم يتحمل نظرات صديقه أو ذكريات المكان الذي ماتت فيه حبيبته.


من الضروري أن يطلع الإنسان على تجارب الآخرين حتي يستطيع التنبه للحكمة من بعض الأمور ، وعواقب اتخاذ القرار الخاطئ حتي ولو كان علي سبيل الوفاء بالعهد، فالتسرع أحيانًا في ردة الفعل يأتي علي حساب سعادة الآخرين، وقد يدفع من نحب الثمن باهظًا، ولا تزال القصص هي خير معلم للبشرية لذلك اختارها المولي عز وجل كوسيلة لسرد التاريخ وتعليم البشر الصبر والحكمة وحسن اختيار القرار.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط