الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: شارع الضباب

صدى البلد

 

فى البداية كنت أخاف السير فيه بمفردي ، فالأشجار هنا كثيفة جداً و  متلاحمة وأيضًا ممتدة على جانبى الطريق ،  أعمدة الإضاءة معطلة والرصف غير ممهد  . و الليل هنا لا يختلف كثيراً عن النهار  ، هناك بضعة عربات قديمة مركونة منذ زمن . كان طريقى اليوم  هادئاً ، سمة رجل واحد كان يمشى فى نهاية الطريق أسمع صوته يتحدث فى الهاتف و قدماه تصافح أحجار الطريق . فى كل مرة  اعتبرت مرورى من هذا الطريق  كالعداء الذي يجتاز مئة متر حرة ثم يقطع شريط السباق بكل فخر و تحدى  . كنت أمشى وحدى  عندما سمعت صوتاً يرتجف و يأن ويهمس فى تأوهات مرعبة ، وقفت مبهوتاً وأنا أتابع مصدر الصوت وتقدمت ببطئ بينما تغيب الملامح هنا فى ضباب هذا الليل الداكن .
كانت جالسة على الرصيف وقد ضمت ركبتيها وشدت أطراف جلبابها القديم تحت قدميها كما كانت تطوي ذراعيها على صدرها وتخبئ كفيها تحت إبطيها من هواء آخر الليل . صوتها يقول أنها تريد أن تتحدث مع أحد حتى نهاية الطريق فقط وتنتظر من يسمعها و يخلصها من هذا الطريق العتم . حينئذ تركت الرصيف وجاءت من فجوة بين عربتين ومشيت إلى جوارى ، كانت تتكلم وكتفها يلامس كتفي ، أخذت تتطلع إلىً بعينين جريئتين فى شئ يزيد عن اللزوم  ، شعرت أن الطريق لم يعد مظلماً تماماً وأني قادر على التمييز . شعرت بأنها تمتلك روحاً طيبة تقول ما تريد ولكنها تعيش فى حياةً مقيدة بسور صدئ و حديقة مهملة . انحدرنا إلى سلم أسمنتي وثبتّ عينى عليها فلم تكن فى حاجة للمساعدة أثناء النزول ، وقفت قليلاً تلتقط أنفاسها وأشعلت أنا سيجارة وأوقفت ذهني تماماً عن التفكير ، كانت قلقة تلتفت كل خطوة تخشى أن يراها أحد. رددت هى أكثر من مرة بتلقائية وصدق أنها تعيش بمفردها ، سبقتنى بخطوة وضعف صوتها واختنقت بالدموع ، تركتها تحكى ... 
أتعجب لهذا القدر الذي جمعنى في هذا الطابور للعديد من النساء الأشقياء المطلقات . كيف أتقبل أن أذوب ضعفاً كل يوم فى ساعات هذا  الليل الكئيب .. عشت شهور بمفردى لا أعلم كيف ، والآن أتحمل الجوع والبرد القارص رغم ضعفى و وحدتى  وحاجتى للغذاء ولكن ليس هناك سبيل . كل ليلة أطلق صرخات بين ضلوعى لا يسمعها أى مخلوق ، كل ليلة تشهد حجرتى معارك رهيبة أكون أنا  بطلتها . و في الحقيقة  لا أعرف سبب المعركة التى انتهت بالأمس ولا أعرف إيضاً سبب معركة اليوم أو الغد . 
 نعم  تركته وتركت له الحى ، وقررت عدم العودة هذه المرة حتى لا أصبح حدوته الطريق ، فالنساء خلف النوافذ يتغامزون ، والرجال تحولوا لأعمدة إضاءة كلاً منهم يريد أن يظلني بنوره حتى لو كنا فى وضح النهار . قررت أن أبعد كى يبدو كل شيء هادئًا حولى ... لا تعلم كم استعصيت على كل الرجال إلا هو . فى الماضى كنت أسير على شاطئ البحر بالملاءة اللف ووجهى الصبوح يضئ ليلاً ويتزين النهار بابتسامتى العريضة وشعرى المبتل المنهدل على نصف وجهي . كان حينما يغمز لي  ألحق به فى طريق لا يقل ظلاماً من هذا الطريق نغزو فيه سوياً دون حروب ، طريق كنا لا نسمع فيه ما يدور على ألسنة الجميع . لقد كان من الممكن أن تسير الحياة هكذا للأبد ، آكل وأشرب وأتركه ينعم بى .. ولكنى فوجئت بفتور بداخلى بعد أن ظننته أمراً عارضًا لا يلبث أن يزول حتى زاد إلى أن أصبح واضحاً .  لم أعد على أمل أن تعود المياه لمجاريها فكل يوم يمرّ أتأكد أن نجمى قد أفل . وأن أيامى باتت قليلة هنا وأنى أصبحت كعود الحطب الذي تحالفت عليه أنياب الشتاء . ولكنى قررت أن أهرب من ذلك المصير الضبابى القاتل  . كنت بالأمس أحوج البشر للدفىء و كانت تمطر بغزارة . لم أشعر بحجم المطر  إلا عندما غادرت المنزل صباحاً وأنا ذاهبة إلى العمل ، كانت الشمس خجولة على جانبى الطريق المبتل ،  رأيت نفسي مثل جدران هذه البيوت الجانبية التى بقعها الماء و لم يحسن المطر غسلها بينما طريقى قد امتلأ  بالكثير من البرك فى حضن  هذا الرصيف الجاف  الممتد دون نهاية  ...اشعر بأن لم يعد هناك حاجه  لرائحتى المشبعة برائحة المطر لأن الماء لم يجرف ما أصابني من  ندبات .  
 وصمتت ! 
الضوء يتسلل ببطئ كطلوع النهار . ابتعدت هى  بكتفها عن كتفى بالتدريج  كمؤشر إننا  وصلنا نهاية الشارع الذى لم يكن طويلاً ، سبقتنى بأكثر من خطوة هذه المرة  وكانت ممتنة ... ولم أراها أبداً بعد ذلك اليوم والغريبة أننى لم أحاول حتى  أن أراها .