الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فلسفة الابتلاء

نهال علام
نهال علام

في فلك الحياة، كلنا نجوم تلمع أحياناً ويخبو بريقها في الكثير من تلك الأحيان، نسلك دروب الحياة بقدر فضولنا، نرتقى سلالم الشغف بقوة أحلامنا، نرقص في دروب الأمنيات صغاراً ونتسكع في أزقة تلك الذكريات كِبارًا، نجلس على شواطئ السهو والنسيان لا يؤرقنا إلا أضغاث تلك الآمال التى تحمل نُطفة الحِلم ومضغة اليقين فيأتى زَبد البحر جارفاً كل صيد اعتقدناه ثمين، ويمضى تاركاً تلك الشعيرات البيضاء وبعض حنين…

رحلة.. هي تلك الحياة، بها القليل من الفرح والكثير من الآهات، وكلما تجاوزنا ألماً ازددنا نضجاً فأصبحنا أكثر صُلباً ولكن تجاوز تلك الجروح بداخلنا ليست أمرًا سهلا. 
وإذا كان المؤمن دائماً هو المُصاب! فهذا يعنى أن البشرية أجمعت على التوحيد والإيمان! وذلك ما لن يحدُث فهو لا يتسق مع إرادة رب الكون الذي خلقنا مختلفين لتكتمل حكمة الوجود، وإنما هي سُنة الحياة أن يخلقنا الله في كَبد، ونتجرع جنون الحياة فنبحث عن السَنَد، فندرك أنه لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ياالله.

والعناء أشكال والابتلاء ألوان، وما تحسبه هيناً قد يكون عند الله عظيما، فالمحنة هي منحة مقنعة، لا ندركها في الصدمةِ الأولى ولكن نبلغها في رحلة الصبر المُرهقة، ولذا كان وعد الله عظيماً عندما بَشر الصابرين، ووعد أن يُجزي العطاء للشاكرين، ولنكن متفقين أن عطايا الله العادِل لا تخضع للهوى ولا الشكل واللون ولا الدين، وما لبشر أن يتدخل في تقاسيم رحمة رب الكون الواسِعة.

والابتلاء درجات، والشوكة التى تصيبك إن آلمتك فهى درجة من هذا الابتلاء وسيجزيك الله عنها خيراً ويضاعف لمن يشاء، وكل ما يُصيبنا من الأمر خيره وشره بلاء، فالفقر والغنى سواء، والصحة والمرض مثار للسؤال، الغباء ابتلاء والذكاء أيضاً أحد صوره، ولا معادلة ثابتة في الملكوت فما تحسبه خيراً قد يكون شر عقيم، وما تظنه السؤ قد يكون هو بصيص الضوء، فالذنب الذي يجعلك إلى الله أقرب خيراً من الثواب الذي يجعل خُلقك أرعَن!

ولكن بالفعل هناك بعض الابتلاءات التى يصعُب على العقل فهمها، ويعجز القلب عن استدراكها، وحاشا أن نسأل الله عن أسبابها، وربما ما شهدناه في الفترة الأخيرة من موت الشباب في الحوادث المفجعة والأمراض الصادمة، والنفسية المتدهورة التى قد تصل بهم لحد إنهاء حياتهم أمور لم نعتاد انتشارها، ولكن هذا نهج حياتنا الحديثة الذى كشفت ستر القلب وعورة العقل، وجعلت حياتنا على المَشاع وأسرارنا أمر مُباح، فأصبح كل شئ مُتاح، والمفجع منها والغريب ينتشر كالنار في الهَشيم.

فدوائر معارفنا أصبحت بقطر الكوكب بعد أن كانت عِند أكثرنا اجتماعية كعدد السائرين في الموكب، لذا فبركان الأحداث المؤسفة التى تحدث على مرِّ الزمان أصبح كالحمم المُلتهبة التى تلقى قذائفها في كُل مكان، فما يمضي يوم دون أن يترك بصمة حضوره في أرواحنا.

نظن أننا من نترك الحياة بينما هي التى تتركنا دون أن ندري، قِطار العمر يمضي وفي كل محطة نودِع جزءاً مِنا، مرة يتركنا صديق أو حبيب، نفقِدُ حُلماً أو أمل بدا يوماً قريب، تتسربل الصحة ويهرب الشباب دون عودة وهذا أمر أكيد، ونذهب بكُليتنا ولا نعود إذا وارينا شخص عزيز.
وذلك أسوء ما في الأمر أننا نعيش حياة واحدة ونموت مرات عديدة، والموت الطويل ماهو إلا الفصل الأخير في سيناريو الأيام العذب المرير!

فالحياة ليست بدار عذاب فدوماً ما يتخللها تلك اللحظات التى تلون السماوات بلون الفرح وتغمر القلب بالبَرَد وتجعلك ترى الشمس والقمر وتدرك روعة الغناء وحلاوة السهر، فهناك لحظات بالعمر كله، بضع أيام نحيا فيها لنعيش مابقي لنا عليها، وذلك من نفحات الكون التى يطبطب بيها على القلب المهزوم ويجبر الخاطر المكسور، ومن ثم تدور الدوائر ونتذوق اليسر فننسى أنه يوماً ما كان العسر، ويأتي العُسر  فنتناسى ما تذوقناه من يُسر، ولكن ما يجعلنا نعبره أن نشكر ونتذكر الأيام التى تذوقنا فيها حلاوة الجبر بعد الصبر، ولنتسلح باليقين أن الخير قادم ولو بعد حين.

فلطف الله يجري والعبد لا يدري، ولعلك بين دمعة ودعوة يدبر الله أمرك بما يمسح عنك حزنك، فالابتلاء ليس انتقاماً يرسله الله ليسقط على رأسك من فوق السبع سماوات، ولكن هو رحمات ترفعك درجات، وتقرب روحك لما يُشبهها حتى تطرد شوائبها، ولذا يا عزيزي الإنسان يكفي أخاك في الإنسانية مفاجأت القدر المخفية، فلنرحم بعضنا البعض ولنتراحم فيما بيننا ونتجاوز ونعفو ونسامح عسى الله أن يرفع عنا مساوئ أقدارِنا، فيا الله نسألك رد القضاء ونسألك اللطف فينا، ونحن بين يديك فلا تردنا منكسرين ياجابِر الألم وياجَبَار على كل ما تسبب في ذلك الألم.

عزيزي صاحِب الابتلاء، كُلنا مبتلى، والرُسل إكثر الأنام ابتلاء، فإذا اشتد القَدر وعَظم الداء وتكالب عليك هَم الأرض فاسأل السماء، ولا تُضاعف هَمَك وتطرَح التساؤلات، فإذا غرقت المركب يبحث راكبيها عن طوق النجاة وليس على أسباب الغَرَق، فعندما تهدأ العواصف وتستقر على أرض صلبة ستعلم الحِكمة لتخرج من التجربة أكثر حِنكة، لذا في خضم جزعك ابحث عن فلسفة الابتلاء المعنوية وليست أسبابه المادية، فالملموس يوماً ما ستكتشفه أما المحسوس إذا مَرّ لن تقتنصُه.