الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خواطر من ناميبيا

د. هادي التونسي
د. هادي التونسي

وجدته يعمل سائقا لسيارة متهالكة بالسفارة قبل بيعها، رجل من فرع القبيلة الأكثر نفوذا في ناميبيا، يفهم الإنجليزية بصعوبة، ويتحدثها بلغة ركيكة بسيطة ببطء وتلعثم، وينطقها بطفولية وحروف مغلوطة لأنها لا توجد في لغته المحلية. 

استعنت به في قيادة السيارة الرسمية الأنيقة بعد ترك زميله الخدمة عليها، وشعرت في بادئ الأمر أن عليه تحسين أسلوب قيادته، حفاظا على السيارة، وتوخي الصبر والاحتمال حتى يحسن الفهم والأداء، ليتناسب مع إيقاع عملي وتعليماتي المتسارعة المقتضبة الأشبه بطلقات الرصاص، والتي كانت تقع عليه كالصاعقة، تشل قدرته على التصرف، فيتحول إحباطه دون وعي إلى تصرفات خاطئة وبطيئة، تفسد كل شيء، وتثير أعصابي، فأصبح أكثر صرامة وعنفا. 

لكن ذلك لا يفقده أدبه ولياقته، أو يخرجه عن هدوئه والتزامه، بل يبدي الأسف الصادق، وكأنه يرجوني أن أكون أكثر رحمة وثقة وإيمانا، بل وكأنه يتعهد ضمنا أن يصل للمستوى اللائق في نهاية المطاف، دون أن يفقده ذلك يقينه وصفاء روحه واندماجه مع الحياة.

أدركت منذ البداية أن ما سأدربه عليه من حسن القيادة وسرعة الفهم ودقة الأداء وأسلوب التصرف هو أحد وجهي عملة، وأن الآخر هو تطوير قدرتي على الاحتمال المحب الرحيم والقبول المسئول لإمكانيات إنسان، ربما قضى بدايات عمره في الغابة، وأصبح عليه التعامل الناجح مع حياة المدينة وثقافة مختلفة وعمل مرهق، ساعاته غير محدودة، ولا تحتمل أوقات طوارئه الخطأ. 

ولأنني كنت أجل في دانييل فطرته الصافية وتفانيه الصامت وصدق حديثه ونواياه وأمانته الفائقة، فلم أرغب يوما في إبداله مهما تسبب في تعطيلي وإحباطي، أو عجز عن الأداء والفهم للتكليفات الطارئة، وكنت أمزح حين أتحدث عن أخطائه، وأدفع بأن قيادة السيارة لا تستدعي توظيف آينشتين، ويجب أن ينعم الكل بمكان وعمل مناسب في هّذه الحياة.

وقد كان، أصبح دانييل خلال عام سائقا ماهرا، يحلو له صيانة وتجميل السيارة والعمل بلا كلل. تحسنت لغته الإنجليزية وقدرته على الأداء والفهم. 

ولأنني كنت أعامله بتبسط، أصبح يعرب عن إعجابه بالموسيقى التي يصدرها جهاز التسجيل، فيتحمس للأناشيد الوطنية العربية بكل انطلاق، ويذوب رقة مع الأغاني العاطفية حتى وإن لم يفهم لغتها، ويستجيب بأدب وتلقائية لمداعباتي الماكرة. 

تحولت رحلاتي خارج العاصمة مع دانييل إلى متعة حقيقية ومشاركة آدمية رغم اختلاف العرق والثقافة والقدرات والخبرات، ورغم أنه كان يمكنني قيادة السيارة في هذه الرحلات والتمتع بساعات طويلة من طبيعة خلابة وموسيقى وأغانٍ عالمية مختارة، إلا أنني حرصت على اصطحابه وسداد تكاليف الإقامة، إذ كنت أستمتع بروحه الصافية وصحبته الصادقة الآمنة، فلم يتخل يوما عن أدبه ولياقته، ولم يستغل انفتاحي عليه، أو يطلب أكثر مما يستحق، أو يخون الأمانة.

وبدا لي أن نقاء السريرة وسلامة النية ودماثة الخلق أكثر حكمة وسعادة من ذكاء أناني متربح، لا يبالي بالقيم، فيضر صاحبه والآخرين وينشر الشقاء والكراهية. 

إن دانييل على تواضعه يقدم مثالا للصبر والنقاء والنزاهة والتفاني يعلي قدر الإنسان، ويبث فيه الإيمان والخير والسكينة. 

وإن رؤية وجهه المشع بروح سعيدة حينما يتأمل الحيوانات والطبيعة في رحلة سفاري، أو يقضي ليلة هانئة في مدينة سياحية، تغني عن متع أخرى في هذه الحياة، وتجعلها أكثر عدالة مع روح صافية، أودعها الله في إنسان، أطلقها بدأب رغم تواضع معيشته ومهنته. 

اليوم اشتعل حماس دانييل لأغنية مسجلة بالإسبانية لم يفهمها، فعكفت على ترجمتها فوريا، وجاء إحساسه صادقا، فكلماتها التي لم أنتبه إليها قبلا تتناول في صور شعرية مشاعر الاشتياق الغلابة.

وتساءلت في نفسي، وقد هزتني كلمات وموسيقى وصوت المغني الذائع الصيت، إذا ما كان شعور دانييل البسيط أكثر يقظة من شعوري الذي لم يدفعني قبلا لمتابعة المعاني، ولكن هذه هي الحياة، لا تتوقف عن الإفصاح عن مفاجآتها ودروسها لمن يريد منا تعلما.

فلنعشها بكل ما فينا من وجدان، ولنلتحم بها، ولننهل من دروسها، ولنقبلها بكل تقلباتها، ولنمنح أنفسنا كاملة لكل لحظة فيها، طالما بقي القلب نابضا، والعقل حرا، والروح يقظة، والجسد حيا.