الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم تركي يكتب: أزمة القيم في واقعنا المعاصر

د.إبراهيم تركي
د.إبراهيم تركي

قبل الولوج في دراسة هذه المسألة ، فإنه لابد من التأكيد على القول بأن علماء النفس يقررون أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الشخصية الإنسانية في جملتها وبين القيم التي يتبناها الفرد وخاصة على المستوى السلوكي ، باعتبار أننا إذا عرفنا قيم الشخص فإننا نعرف شخصيته جيداً.


وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى القيم الخُلقية ومكانتها ، فإن الحاجة إليها في تطوير الشخصية وتنمية النفس وترقيها مهم للغاية ، ذلك لأنها تقدم سبيلاً للاستقرار الداخلي والتعايش مع المجتمع على الوجه الصحيح.


وحتى لا يطول بنا الحديث حول أهمية القيم في الارتقاء بالشخصية الإنسانية ، فإنه يمكن الإشارة على نحو موجز أيضاً إلى أنه إذا كان هناك خلاف حول ما إذا كانت القيم على وجه العموم والقيم الأخلاقية على وجه الخصوص فطرية أم مكتسبة ، فإننا لا نود أن نخوض في بحث إمكانية ترجيح أحد الرأيين ، بل إننا سنكتفي مؤقتاً بالتوفيق بينهما باعتبار أن هناك بعض القيم قد تكون فطرية إلا أن البيئة هي التي تشوش عليها أو تطمسها ، كما أن بعض القيم لابد أن تكون نتاجاً للحياة الاجتماعية ومايترتب على ذلك من اعتبارها مكتسبة.

وعلى أية حال ، فإننا سنسلم مؤقتاً بالقول بإمكانية اكتساب القيم مهما كان مصدرها ، ومايترتب على هذا التسليم من بحث القضية المطروحة.

وقبل الخوض في هذه المسألة ، فإنه ينبغي علينا أن نقدم إشارة موجزة إلى بعض المساﺌـل التمهيدية المتعلقة بذلك ، ونبدأ هذا الحديث بإشارة موجزة إلى أهم الأسباب التي تدعوا إلى الاهتمام بدراسة موضوع غرس القيم وتعديلها.
*                  *                *
والذي دعانا إلى دراسة هذه المسألة على هذا النحو أنه من الملاحظ أن مجتمعنا العربي والإسلامي يمر بفترة حرجة من حياته تتسم باهتزار القيم واضطراب المعايير الاجتماعية والأخلاقية وكثرة حالات الخروج عن تعاليم الدين الحنيف. فإذا نظرنا نظرة سريعة إلى الحياة الاجتماعية والنفسية التي يحياها شبابنا ، فإنه يتأكد لنا مدى مايعانونه من اغتراب نفسي وخلل قيمي مخيف.

وفي هذا العصر الذي يتسم بالتطور التقني والثورة المعرفية ، فإننا نلاحظ أن الأمور تسير في طريق إبعاد الفرد والمجتمع عن قيمه الدينية والخُلقية الصحيحة أكثر فأكثر، ابتداءً من الانبهار بالتطور التقني والتجاوب معه من غير وجود رصيد قيمي وسلوكي يضبط الحياة ، مروراً بالميل المتنامي لدى كثير من الأفراد نحو اللامبالاة بما يقترفه بعض الأفراد والجماعات في المجتمع من سلوكيات تتنافى وقيم هذا المجتمع ، إضافة إلى ظهور بعض التيارات والدعوات التي تنادي صراحة أو ضمناً بالخروج عن هذه القيم ، مع تسلل القدوة السيئة التي لا تتفق مع قيمنا إلى معظم البيوت من خلال أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة بحيث أصبحت هذه القدوة مع مرور الوقت شيئاً مألوفاً. هذا مع انشغال الناس في هذه الأيام أكثر فأكثر بهموم لقمة العيش التي أصبح تحصيلها يستنزف معظم وقت وجهد رب الأسرة .
*                  *                *
فإذا كان من الثابت أن القيم هى التى توجه العملية التربوية برمتها، فالعلاقة إذن بين القيم والتربية علاقة تبادلية ، فمن غير تربية يصعب غرس القيم وتنميتها ، ومن غير القيم تصبح التربية عقيمة غير ذات فائدة . والتربية التى نقصدها هنا تشمل التربية في البيت وفي المدرسة وفي المؤسسات الأخرى ، وتشمل التربية النظامية وغير النظامية . وتبدأ عملية زرع القيم وتنميتها لدى الفرد منذ أيام حياته الأولى وهو طفل بواسطة الأسرة ، ولا تنتهي إلا بانتهاء حياته على وجه البسيطة.
وإذا كنا قد تحدثنا في غير هذا الموضع عن أهمية القيم في حياة الفرد والمجتمع بصورة عامة ، فإن أهمية هذه القيم وضرورة العناية بها تزداد في عالم اليوم المتغير المتقلب الذى بدأ يتنكر للقيم ويحارب الفضيلة ، وتتضح هذه الأهمية للأسباب التالية :


1-اتسام المجتمعات عامة ومنها الشعوب العربية والإسلامية حالياً باهتزاز القيم واضطراب المعايير الاجتماعية والأخلاقية وكثرة حالات الخروج على تعاليم الدين والقانون ، مما أصبح يثير الخوف من تهديد أمن البلاد واستقرارها الاجتماعي ، الأمر الذى يدعو إلى ضرورة بناء شخصية الإنسان على أساس الدين والأخلاق.


2-الواقع الراهن الذي يتميز بالتطور التقني والانفجار المعرفي ، وكل منهما يلاحق الآخر بصورة مذهلة مما يؤدي إلى الانبهار به والتجاوب معه والتعامل مع متطلباته. ولهذا التطور والتنامي سلوكيات تضبط حركة المجتمع ، ويخشى مع مرور الوقت وقوعنا في التبعية المعرفية والثقافية مما يهدد شعورنا بالانتماء إلى أوطاننا.


3-الميل المتنامي لدى أفراد المجتمع إلى عدم المبالاة بالحماقات التى يقترفها بعض أفراده وجماعاته ، إضافة إلى ظهور التيارات المتطرفة أو المعاكسة للتدين الذي يجمع بين العقل والإيمان في إطار الوسطية.


4-ورود بعض السلوكيات التى لا تتفق وقيمنا الفاضلة من خلال أجهزة الإعلام والثقافة ووسائل الاتصال باسم الفن ، وباسم الاطلاع على واقع العالم المتقدم، وباسم اللحاق بركب الحضارة . وكثير جداً من إنتاج هذه الأجهزة وأعمالها يدخل بيوتنا ويقتحمها ويفسد إلحاحه وتكراره علينا قيمنا الدينية والأخلاقية ، إذ يصبح بمرور الوقت مألوفا ومعتاداً. الأمر الذي يؤدي إلى ترسيخ أثاره فى نفوس الكبار.


5-انشغال الناس حالياً بهموم العيش والرزق ، حيث لم يعد مستوى دخل الأفراد كافياً لمواجهة احتياجات المعيشة ، وقد ساعدت السلوكيات المعاصرة على شيوع الرغبة في رفع مستوى الدخل ، ولم تعد الأسرة ، لعدة أسباب ، قادرة على القيام بالأعباء المتزايدة يوماً بعد يوم ، مما أدى إلى ضعف القدرة على رعاية الأولاد إما عن قصور أو عن تقصير.


6-ضعف دور المدرسة والمؤسسات التعليمية عامة فى غرس القيم لدى التلاميذ ، حيث أصبح اهتمام المعلمين منصباً على تلقين المعارف وعلى الانتهاء من المقررات فى أقصر وقت ، بالإضافة إلى اهتمامهم المبالغ فيه بتوجيه الطلاب نحو الدروس الخصوصية.
 كل هذة الأمور مجتمعة وغيرها تؤكد ضرورة إعادة النظر فى غرس وتعديل القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية وضرورة تضافر كل الجهود للعناية بها لمواجهة هذه التحديات التي يتعرض لها أبنائنا.
 *                  *                *
وإذا كان من الملاحظ أن أهم الأسباب التي أدت إلى اختلال النسق القيمي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إنما تتمثل في حدوث ذلك التغير الاجتماعي والثقافي الناتج عن الثورة المعلوماتية التي حدثت في الآونة الأخيرة ، فإنه يمكن القول على نحو إجمالي بأنه مع تسليمنا بحتمية حدوث التغيرات الاجتماعية البطيئة أو التدريجية وما يصاحبها من تغيرات في مختلف مناحي الثقافة ومنها التغيرات فى القيم ، فإننا نود أن نؤكد على القول بأن هناك عاملاً حاسماً في إحداث التغير الاجتماعي والثقافي والقيمي قد ظهر في الآونة الأخيرة ولوحظت تأثيراته المبالغ فيها في هذا الصدد ، وهي التي تتمثل أساساً في الثورة المعلوماتية المعاصرة التي تتمثل في شيوع الفضائيات الدولية وشبكة المعلومات الدولية . ويمكننا أن نوجز هذا الأثر السلبي على النحو التالي:


1-خطورة ماتبثه القنوات الفضائية من الدول المرسلة التي تمتلك وتدير مثل هذه القنوات إلى البلدان التي تستقبلها ، مما يجعلها في وضع المتأثر بسبب وجود فوارق اجتماعية وثقافية كبيرة بينهم.


2-إقصاء الثقافات المحلية ، حيث تعمد وكالات الأنباء العالمية التي تسيطر عليها الدول الكبرى وتخضع لثقافات البلاد الموجودة بها إلى ترسيخ هذا الإقصاء ،  فإنه من الملاحظ أن الدول المنتجة للمادة الإعلامية تنزع إلى إهمال الثقافات الأخرى ولا تعرض منها إلا ماهو طريف وعجيب. و يتجلى أثر ذلك على الملتقي الذى يرى أن الثقافات المنمقة المعروضة أولى من ثقافته التي تفرض عليه بهذه الصورة فيترك ثقافته وقيمه المتوارثة ويتبنى قيم تلك الدول المهيمنة مع أنها غريبة عنه ، وما يؤدي إليه ذلك من شعوره بالتشتت القيمي وضعف الانتماء وما إلى ذلك من المشاعر السلبية نحو ثقافته.


3-تجزئة الثقافة المحلية ، لأن الأخبار والمادة الإعلامية المتعلقة بالثقافات المحلية تأتي مبسطة ومجزأة بل وأحياناً مشوهة ومجافية للواقع . الأمر الذي يؤدي إلى شعور الفرد بتفاهة مافي مجتمعه من أخبار، ومايؤدي إليه ذلك من توجهه إلى الثقافات الأخرى ذات الأخبار المتكاملة والمعلومات العميقة ، ويصاحب ذلك من الضعف الحاد في التنشئة الاجتماعية لدى أبنائنا الطلاب وخاصة في المراحل التعليمية قبل الجامعة.


4-تعدد القنوات الفضائية الذي يتضمن خطورة ملحوظة على الثقافات الوطنية وذوبانها أو طمس بعض معالمها في ظل هذا الزخم الإعلامي الموجه لصالح ثقافة البلدان المهيمنة مع مايتبعه من تصدير لمثل عليا ونماذج وسلوكيات وتوجهات وقيم وأسلوب حياة وافدة ومفروضة بشكل فوقي يمس بعض أساليب الحياة الاجتماعية.


5-التأثير المباشر على التنشئة الإجتماعية . فالأمر الملحوظ أن تأثير القنوات الفضائية أو الاتصال الجماهيري في عمليات التنشئة الاجتماعية قد بدا بارزاً حيث دخلت هذه التقنيات الحديثة كل بيت وخاطبت كل فرد صغيراً كان أم كبيراً واقتحمت كل الميادين ، فتغيرت القيم وتبدل السلوك الجمعي.


6-يوجد تأثير على الجوانب الأخلاقية التي تتمثل أبرز مشكلاتها في الترويج للإباحية والاختلاط والقيم والمبادئ المخالفة للأديان ، ثم التأثير الثقافي الذي تمثل أبرز مشكلاته في تدفق المعلومات غير المنتقاه والترويج للأفكار الغربية وتعزيز التبعية للفكر الغربي . بالإضافة إلى التأثير على الجوانب العقائدية الذي يبدو في تعزيز النزعة المادية على حساب الجانب الروحي والإيمان وإظهار شعائر أهل الكفر ورموز معتقداتهم الباطلة وتشويه صورة الأديان والمتدينين.
 

وبعد ذلك ، فإنه لابد من التأكيد على القول بأن استعراض هذه الأمور لا يعني القنوط واليأس من الإصلاح أو أنها دعوة إلى تثبيط العزائم والهمم ، والخنوع إلى هذا التيار الجارف من "اللاقيمية" التي تسود العالم عامة بما فيه المجتمعين العربي والإسلامي ، بل إن ذلك يؤكد أن على المخلصين في هذا المجتمع ، وهم كثيرون بحمد الله ، أن يأخذوا الأمر بعين الجد ، وأن يعدوا لهذا الأمر عدته ، وأن يكونوا على قدر المسئولية فيسعوا جاهدين إلى مقاومة هذا الشر المستشري ، وتحصين النشئ بالقيم والأخلاق والعقيدة الدينية الصحيحة وترسخيها لديهم حتى يواجهوا هذا التيار الجارف بثبات.