في الأيام الأخيرة، شدّ انتباه الأسواق المصرية والعالمية تراجع مفاجئ في سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الجنيه المصري، في وقت تتعافى فيه مؤشرات الاقتصاد الكلي وتتزايد الثقة بقدرة الحكومة والبنك المركزي على ضبط المشهد النقدي. وبينما يرى البعض أن هذا الانخفاض مجرد انعكاس لمتغيرات مؤقتة، يراه آخرون نتيجة إصلاحات بدأت تؤتي ثمارها. فهل ما يحدث هو بداية لتحول اقتصادي حقيقي؟ أم موجة عابرة سرعان ما ستتبدد؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذا التقرير عبر قراءة تحليلية لرأي الخبراء، أبرزهم الدكتور رمضان معن، أستاذ الاقتصاد بجامعة طنطا.
هبوط لافت.. والأسباب ليست عشوائية
انخفض سعر صرف الدولار الأمريكي إلى ما دون حاجز الـ48 جنيهًا خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما وصفه الدكتور رمضان معن بأنه نتيجة مباشرة لقرارات نقدية "محورية" اتخذها البنك المركزي المصري مؤخرًا، أبرزها توحيد سعر الصرف، مما أتاح تعزيز الثقة في السوق المصرفية المحلية وجذب مزيد من التدفقات النقدية الأجنبية.
واعتبر معن أن هذا التراجع لم يكن وليد لحظة عشوائية أو اضطراب مؤقت، بل هو نتاج "مسار إصلاحي مدروس" بدأ يعطي ثماره على أرض الواقع.
دعائم محلية قوية
يشير الدكتور معن إلى مجموعة من العوامل المحلية التي أسهمت في تخفيف الضغط على سوق الصرف وزيادة المعروض من الدولار:
تحويلات العاملين بالخارج: والتي بلغت نحو 32.8 مليار دولار خلال 11 شهرًا فقط من العام المالي الجاري.
الاحتياطي النقدي الأجنبي: ارتفع إلى 48.7 مليار دولار بنهاية يونيو، وهو ما يعزز قدرة البنك المركزي على التدخل وقت الحاجة.
الصادرات المصرية: شهدت نموًا واضحًا بفضل تحسن جودة وتنافسية المنتجات المصرية في الأسواق الدولية.
السياحة: قطاع السياحة تعافى بقوة ويتوقع أن تتجاوز إيراداته 17 مليار دولار مع نهاية 2025.
قناة السويس: تجاوزت القناة تداعيات أزمة البحر الأحمر، ما أعاد لها دورها كمصدر رئيسي للعملة الصعبة.
كل هذه العوامل ساهمت في زيادة العرض الدولاري مقابل الطلب، ما انعكس تلقائيًا على سعر الصرف.
عوامل خارجية داعمة
لم تغب العوامل الخارجية عن هذا المشهد؛ فالدولار نفسه يواجه ضغوطًا على الساحة الدولية. يشير معن إلى:
تراجع الطلب العالمي على الدولار بسبب تباطؤ الاقتصاد الأمريكي.
انخفاض أسعار النفط، مما قلل من استخدام الدولار كعملة أساسية في التداولات العالمية.
اتفاقيات الاستيراد بالعملات المحلية مع دول البريكس مثل الصين والهند وروسيا، والتي ساعدت مصر على تقليل الاعتماد على الدولار.
استثمارات منتظرة وتعزيزات محتملة
من المتوقع أن تتلقى مصر خلال الفترة المقبلة استثمارات خليجية مباشرة تتجاوز 10 مليارات دولار من دول مثل الكويت وقطر، إلى جانب تمويل من الاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات يورو، وهي أموال ستعزز من احتياطي النقد الأجنبي وتدعم قيمة الجنيه المصري.
هل يستمر تراجع الدولار؟
يرجح الدكتور معن أن يشهد الدولار مزيدًا من التراجع خلال الشهور القادمة، مؤكدًا أن السعر قد يستقر ما بين 47 إلى 46 جنيهًا إذا تواصل الاستقرار الإقليمي واستمرت التدفقات النقدية من مصادرها الأساسية. ويؤكد أن الاستقرار السياسي في المنطقة سيكون مفتاحًا مهمًا لتعزيز الثقة في العملة المحلية.
بين الحذر والتفاؤل
وراء كل رقم اقتصادي قصة أعمق من مجرد صعود أو هبوط. وفي حالة الجنيه المصري، يبدو أن ما نشهده اليوم هو بداية لمرحلة جديدة، لا تعتمد فقط على الإجراءات المؤقتة، بل على إصلاحات هيكلية بدأت تؤتي ثمارها. لكن، وكما يحذر الخبراء، فإن الحفاظ على هذا الاتجاه يتطلب يقظة مستمرة، وقرارات جريئة، واستقرارًا سياسيًا لا يقل أهمية عن العوامل الاقتصادية.
في النصف الثاني من 2025، قد يكون الجنيه المصري على موعد مع مزيد من التحسن إذا بقيت العوامل الداعمة متماسكة وفعّالة.