منذ أن عرفت مصر الزراعة قبل أكثر من سبعة آلاف عام، ارتبط مصيرها بخصوبة الأرض وعدالة القوانين التي تنظم استغلالها.
فالتاريخ يشهد أن التشريعات الزراعية لم تكن مجرد نصوص مكتوبة، بل أدوات لبقاء الدولة وضمان قوت شعبها؛ من قوانين الري وتوزيع المياه في مصر القديمة، مرورًا بمحاولات تنظيم الملكية الزراعية في العصور الحديثة. واليوم، ومع تصاعد التحديات البيئية والاقتصادية، تصبح أهمية تطوير التشريعات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، حتى تواكب المتغيرات وتُعيد للزراعة دورها المركزي في بناء الوطن.
وانطلاقًا من هذا الإرث التاريخي، فإن واقع الزراعة المصرية اليوم يفرض نفسه بقوة. ففي ظل التحديات البيئية والاقتصادية التي تتزايد يومًا بعد يوم، يظل القطاع الزراعي أحد أهم ركائز الأمن الغذائي والتنمية المستدامة.
غير أن هذا القطاع لا يمكن أن ينهض بدوره المنشود دون إصلاحات تشريعية عميقة تُعيد صياغة القوانين القديمة بما يتلاءم مع الواقع الحالي، وتضع ضوابط واضحة لإدارة الموارد الطبيعية وحماية الرقعة الزراعية، وفي الوقت نفسه تفتح المجال أمام الابتكار والتكنولوجيا الحديثة.
ولعل أول ما يفرض نفسه في هذا السياق هو حماية الأراضي الزراعية فالأرض الخصبة هي خط الدفاع الأول عن الأمن القومي، وأي تفريط فيها يعني تهديد مستقبل الأجيال القادمة. لذلك فإن العقوبات وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُقترن ببدائل عمرانية مدروسة تستوعب النمو السكاني بعيدًا عن الرقعة الزراعية.
ومن هنا يبرز دور التشريع في توجيه التوسع العمراني نحو مناطق جديدة، كما فعلت دول مثل الهند والبرازيل التي استفادت من آليات التسجيل الرقمي وحصر التعديات بدقة، وهو ما يمكن تطبيقه في مصر.
وإذا انتقلنا إلى قضية المياه، فإنها تمثل العمود الفقري الثاني للزراعة. ومن هنا تصبح التشريعات التي تنظم نظم الري الحديثة ضرورة لا رفاهية. فالمياه باتت أغلى من النفط، والتحول من الري بالغمر إلى نظم أكثر كفاءة مثل الري بالتنقيط أو الرش لم يعد خيارًا مؤجلًا. صحيح أن الدولة قطعت خطوات مهمة عبر مشروعات تبطين الترع والتحول للري الحديث، لكن هذه الجهود لن تكتمل دون نصوص تشريعية تُلزم المزارعين، وفي الوقت ذاته توفر لهم الحوافز الضريبية والقروض الميسرة لتشجيع الالتزام بالمعايير الحديثة.
وبعد الأرض والمياه، يأتي ملف المخلفات الزراعية كأحد أبرز التحديات البيئية والاقتصادية. فاستمرار حرقها لم يعد مقبولًا في عصر يُعلي من قيمة الاقتصاد الدائري. ومن هنا تظهر الحاجة إلى تشريعات تُحوّل هذه المخلفات من عبء إلى فرصة، عبر إدماجها في مشروعات لإنتاج الطاقة والأسمدة العضوية. ولنا في الاتحاد الأوروبي مثال واضح، حيث ألزمت التشريعات المزارعين بتجميع المخلفات الزراعية ضمن منظومة إعادة التدوير مقابل دعم مالي مباشر. وهذا النموذج يمكن أن يُطبق عندنا بما يضمن حماية البيئة وتوفير فرص عمل جديدة للفلاحين.
غير أن التشريع الزراعي لا يمكن أن ينجح إذا اقتصر على حماية الموارد الطبيعية فقط. فالبُعد الاجتماعي حاضر بقوة، إذ يحتاج الفلاح المصري إلى منظومة قوانين تنظم التأمين الصحي والاجتماعي للعاملين بالزراعة، وتكفل لهم أسعارًا عادلة لمحاصيلهم عبر آليات تسويقية تحد من استغلال الوسطاء. وبذلك يتحقق الربط بين حماية الموارد وتحسين معيشة المواطن البسيط، وهو جوهر التنمية المستدامة التي تقوم على العدالة الاجتماعية بقدر ما تقوم على الكفاءة الاقتصادية.
ومن هنا، أرى أن الإصلاحات التشريعية الزراعية يجب أن تكون شاملة وعابرة للحكومات، بحيث ترتبط برؤية استراتيجية وطنية طويلة الأجل لا تتأثر بتغير الوزراء أو السياسات. فمستقبل الغذاء في مصر ليس قضية عابرة، بل قضية وجودية تتعلق بقدرتنا على مواجهة التغير المناخي والزيادة السكانية وضغوط الأسواق العالمية. وإذا لم نسارع اليوم بإقرار تشريعات قوية وواقعية، فسوف نجد أنفسنا ندفع ثمنًا باهظًا في المستقبل.
ولأن الزراعة ليست مجرد قطاع اقتصادي بل ركيزة من ركائز الأمن القومي، فإن البُعد السياسي حاضر في هذا الملف بقوة. فالتشريعات الزراعية ليست مسؤولية وزارة الزراعة وحدها، وإنما هي قرارات سيادية تمس استقلال مصر الاقتصادي. والزراعة المستدامة تعني تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتثبيت المجتمعات الريفية في أماكنها، والحد من الهجرة الداخلية، وهو ما ينعكس مباشرة على استقرار المجتمع وتوازن المدن. ومن ثم، فإن البرلمان والأحزاب السياسية مدعوون لوضع هذا الملف على رأس أولوياتهم، بعيدًا عن المكاسب الآنية أو الشعارات المؤقتة.
وبذلك يمكن القول إن الإصلاح التشريعي الزراعي هو البوابة التي تفتح لمصر طريقًا أكثر أمانًا نحو المستقبل؛ طريق يجمع بين حماية الموارد وتشجيع الابتكار، ويستند إلى معالجة حقيقية لمشكلات الفلاح، ويضع مصر في موقع أقوى على خريطة الأمن الغذائي العالمي. إنه الطريق الوحيد لبناء وطن مستدام بحق، قادر على أن يطعم أبناءه من خير أرضه، كما فعل منذ فجر التاريخ.