قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. ثروت إمبابي يكتب: إنشاء مجمعات صناعية زراعية متكاملة لتعزيز القيمة المضافة للمنتجات

د. ثروت إمبابي
د. ثروت إمبابي

في لحظة درامية تشبه مشهدًا من أحد أفلامنا المصرية القديمة، حين كان البطل يقف أمام أرضه الطيبة مترددًا بين بيعها بثمن بخس أو الاحتفاظ بها أملاً في غدٍ أفضل، نجد أنفسنا اليوم أمام نفس المفارقة ولكن على مستوى الوطن بأكمله: هل نظل نبيع محاصيلنا في صورتها الخام ونكتفي بهامش ربح ضئيل؟ أم نصنع مجدًا جديدًا بتحويل تلك المحاصيل إلى منتجات ذات قيمة مضافة تفتح لنا أبواب الأسواق وتمنح المزارع والعامل والصانع مكانة يستحقها؟ هذا المشهد ليس خيالًا سينمائيًا، بل هو واقع اقتصادي وسياسي يفرض علينا خيارًا مصيريًا.

إن إنشاء مجمعات صناعية زراعية متكاملة لم يعد ترفًا تنمويًا أو خيارًا مؤجلًا، بل صار ضرورة سياسية واقتصادية مرتبطة مباشرة بالأمن الغذائي وبمستقبل الزراعة والصناعة في آنٍ واحد. فالدول التي سبقتنا في هذا المجال أدركت أن مجرد التوسع في الزراعة دون وجود صناعات تحويلية لا يحقق قيمة مضافة حقيقية، ولا يرفع من دخل المزارع، ولا يمنح الاقتصاد الوطني القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية. ومن هنا يتضح أن الدولة حين تضع هذا الملف على طاولة السياسات العامة، فإنها تعيد صياغة المعادلة التقليدية، لتنتقل من مجرد دعم الإنتاج الخام إلى تبني مفهوم متكامل يقوم على تحويل المنتجات الزراعية إلى سلع صناعية قابلة للتسويق والتصدير.

المجمع الصناعي الزراعي المتكامل هو ببساطة مساحة مخططة تجمع بين أنشطة الزراعة والتجميع والتبريد والمعالجة الغذائية والتعبئة، في بيئة لوجستية متكاملة تتيح تقليل الفاقد بعد الحصاد، وتحسين الجودة، وربط المزارع بالمستهلك النهائي عبر سلاسل قيمة منظمة. هذا النموذج يضمن أن تتحول الطماطم المزروعة إلى صلصة معبأة، واللبن المنتج إلى جبن وألبان معالجة، والتمور إلى منتجات معبأة قابلة للتصدير، بما يعني مضاعفة العائد للمزارع والاقتصاد معًا. وهو ما يتماشى مع سياسات الدولة التي تسعى لزيادة الصادرات الزراعية المصنعة لا الخام، وتعزيز القدرة على المنافسة في أسواق عالمية تضع معايير صارمة للجودة والتعبئة.

الفوائد السياسية والاجتماعية لمثل هذه المجمعات لا تقل أهمية عن العوائد الاقتصادية. فالتجارب الدولية أثبتت أن إنشاء مناطق صناعية زراعية متكاملة يسهم في خلق فرص عمل للشباب والمرأة في الريف، ويجذب استثمارات محلية وأجنبية بفضل البنية التحتية الجاهزة والحوافز الممنوحة، ويقلل من هجرة العمالة إلى المدن الكبرى، إذ يوفر بيئة إنتاجية متكاملة بالقرب من مناطق الزراعة. إضافة إلى ذلك، فإن هذه المجمعات ترفع مستوى الأمن الغذائي المحلي، لأنها تحسن كفاءة استغلال المحاصيل وتحد من الهدر، وتوفر منتجات غذائية مصنعة بأسعار مناسبة، ما يحقق بعدًا اجتماعيًا يتسق مع العدالة الاقتصادية وتوزيع الفرص.

لكن نجاح التجربة يحتاج إلى تخطيط ذكي ومؤسسي. فاختيار المواقع يجب أن يكون قريبًا من مناطق الإنتاج الرئيسية ومتصلاً بشبكات النقل والطاقة، مع بنية تحتية تستوعب مراكز تبريد ومختبرات جودة ومنشآت تدريب. كما أن حوكمة المجمعات تتطلب كيانًا قانونيًا واضحًا وشراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص، مع تشريعات مرنة لتسهيل الترخيص وتقديم حوافز ضريبية وائتمانية للمستثمرين. ولا يقل أهمية عن ذلك وضع آليات تضمن إشراك المزارعين بشكل منظم في هذه السلاسل عبر عقود توريد عادلة وتمويل ميسر، حتى لا ينفصل المزارع عن قلب المنظومة.

ومن وجهة نظري، فإن بناء هذه المجمعات في مصر لا يمثل مجرد مشروع اقتصادي، بل مشروع وطني يعزز من مكانة الدولة سياسيًا على المستويين الإقليمي والدولي. أرى أن الأولوية يجب أن تتركز في المناطق ذات الإنتاجية العالية مثل الدلتا وصعيد مصر، حيث يمكن أن تتحول هذه المجمعات إلى أقطاب تنموية متكاملة تخلق فرصًا هائلة للشباب وتعيد الثقة في الريف كبيئة عمل منتجة. كما أؤمن أن نجاح التجربة يتطلب إرادة سياسية قوية، ومتابعة تنفيذية دقيقة، وربطًا مباشرًا مع خطط التوسع في الصادرات الزراعية والصناعات الغذائية. إن هذه الرؤية كفيلة بتحويل التحديات الاقتصادية إلى فرص تنموية، وبناء اقتصاد زراعي صناعي متكامل قادر على الصمود في وجه الأزمات العالمية