من يظن أن بإمكانه أن ينأى بنفسه عن أزمات المنطقة أو أن يظل في معزل عن الخطر الداهم، فهو واهم. فالعالم العربي ليس جزرًا متناثرة يمكن لكل منها أن يعيش منفصلًا عن الآخر، بل هو إقليم واحد تشترك دوله في الجغرافيا والتاريخ والمصير. وما يحدث في طرفه الجنوبي أو الغربي سرعان ما تشتعل نيرانه في شرقه وشماله.
لقد عرفت أمتنا منذ بدايات القرن العشرين أشكال التمزق والتجزئة، حين رُسمت حدودها بخطوط استعمارية على موائد سايكس بيكو، فتفرقت شعوبها وقُسمت ثرواتها، وانشغلت كل دولة بترميم كيانها الوليد عن مشروعها القومي الجامع. وحين بزغ فجر الاستقلال، تجدد الأمل في وحدة الصف، غير أن الخلافات الداخلية، والأهواء الضيقة، ومطامع السلطة حالت دون تحقيق الحلم الكبير، بينما العالم من حولنا انطلق في بناء تحالفات وتكتلات أقامت لنفسها قوة رادعة ومكانة دولية مؤثرة.
ومع ذلك، لم يخلُ التاريخ من لحظات مضيئة أشرقت فيها شمس الوحدة والتكاتف. ففي حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، حين توحدت الإرادة العسكرية المصرية والسورية، وحين امتزج السلاح بالبترول العربي، اهتزت الموازين الدولية وأُعيد للعرب بعض من كرامتهم المهدورة. وفي ستينيات القرن الماضي، ارتفع الصوت العربي من القاهرة وبغداد ودمشق، معلنًا أن للأمة قضية وهوية ومشروعًا للتحرر، فكان للعرب حضور فاعل في المحافل الدولية، يُسمع صوتهم وتُحسب كلمتهم.
لكن تلك اللحظات، للأسف، لم تستمر طويلاً. إذ سرعان ما عادت الخلافات، وتغلبت النزاعات على روح التضامن، فتحول الإعلام من أداة وعي إلى سلاح تفرقة، وانشغلت بعض الأنظمة بتحقيق مصالح آنية ضيقة على حساب المصلحة القومية الكبرى. وهكذا ضاع الكثير من الرصيد، وتوالت الهزائم المعنوية والسياسية والعسكرية، حتى وصلنا إلى حاضر متأزم تتناثر فيه الفتن من فلسطين إلى العراق، ومن اليمن إلى ليبيا، ومن السودان إلى لبنان، حتى غدا كل بلد عربي مهددًا في أمنه وسيادته.
واليوم نرى أن النار لا تشتعل في أطراف الإقليم فقط، بل تقترب من قلب كل بيت عربي. وما حدث مؤخرًا في قطر يعكس بوضوح أن لا أحد في مأمن، وأن يد العبث قادرة أن تطال أي دولة عربية، مهما حاولت أن تبتعد أو توازن. ومن هنا فإننا نعلن تضامننا الكامل مع الشعب القطري في مواجهة أي تهديد أو ضغط، مؤكدين أن الخلافات السياسية لا تلغي حقيقة أننا أمة واحدة، وأن المصير المشترك يفرض علينا أن نقف معًا في وجه الخطر، لا أن نترك بعضنا فرائس سهلة للتدخلات الخارجية.
وفي خضم هذه التحديات، لا تزال مصر تمثل الرقم الصعب في المعادلة. وقد عبّر الصحفي الخليجي عادل مرزوق عن هذه الحقيقة حين كتب قائلاً: “إذا أرادت قطر حماية دورها كوسيط وتوجيه احتجاج ولو شكلي للولايات المتحدة، فعليها أن تترك ملف الوساطة لمصر.. الدولة الوحيدة التي لا تجرؤ إسرائيل على العبث معها.
ننتقد مصر كثيرًا لكن الحقيقة أنها تبقى الرقم الأصعب في التعامل مع تل أبيب.” كلمات صريحة تكشف كيف ينظر الآخرون إلى ثقل القاهرة، وكيف يُدرك الجميع أن غيابها يعني فراغًا لا يملؤه أحد. بل إن الردود على التغريدة لم تخلُ من أصوات تؤكد هذه المكانة، إذ قال أحدهم: “تحيا مصر العظمي بقيادة زعيمها وجيشها العظيم.”
إننا اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة. فإما أن نستمر في الدوران في حلقة مفرغة من الانقسام والتشرذم، وإما أن نستيقظ على حقيقة أن مصيرنا واحد لا يتجزأ، وأن الخطر المحدق لا يفرق بين بلد وآخر.
ولا سبيل إلى النجاة إلا بتوحيد الخطاب الإعلامي العربي أولاً، فالاعلام هو المرآة التي يرى بها العالم صورتنا. وإذا بقي الخطاب العربي متناقضًا ومشتتًا، فلن تكون لنا هوية جامعة، ولن نستطيع مواجهة الحملات الممنهجة التي تستهدف وعي شعوبنا وتشوه صورتنا. أما إذا اتحدت الكلمة وصدحت بلسان واحد، فإننا نملك حينها قوة ردع لا تقل أثرًا عن السلاح في ميادين المعارك.
ثم تأتي الخطوة الأعمق وهي وحدة القرار العربي. لقد علّمنا التاريخ أن بيانات الشجب والإنكار لا تغني شيئًا، وأن القمم التي تظل حبيسة الكلمات لا تصنع واقعًا. المطلوب اليوم إرادة سياسية عربية جادة، تتجاوز الحسابات الضيقة، وتضع نصب أعينها أن ما يهدد جارك اليوم سيهددك غدًا، وأن أمن الأمة لا يقبل القسمة.
ووسط هذا المشهد المضطرب، تبقى مصر هي كلمة السر وحلّ العقدة. مصر التي كانت وما زالت حجر الزاوية في منظومة الأمن القومي العربي. مصر التي تصدت للاستعمار، وقادت حركات التحرر، وخاضت الحروب دفاعًا عن الأرض والعرض، وحملت فلسطين في وجدانها كقضية مركزية للأمة كلها. مصر التي ما إن تحركت حتى تحركت معها الأمة، وما إن صمدت حتى استمد الجميع منها العزم. فهي بما تملكه من ثقل تاريخي وجغرافي وديمغرافي وسياسي، تظل صمام الأمان، والركيزة التي لا غنى عنها في أي مشروع عربي جامع.
إن لم نتعلم من دروس الماضي، فإن التاريخ لن يرحمنا. وإن لم نبادر نحن بكتابة صفحة جديدة من الوحدة والتكاتف، فإن غيرنا سيكتبها بما يخدم مصالحه لا مصالحنا. لقد آن الأوان أن نرتقي إلى مستوى اللحظة، وأن ندرك أن قوتنا في وحدتنا، وأن ضعفنا في فرقتنا. فإما أن ننهض كأمة واحدة، أو نظل وقودًا لصراعات الآخرين.
ومن قلب هذا الواقع، أوجه رسالتي كمصري إلى قيادتي: إن كان الله في عونكم وأنتم تتحملون ثِقَل الأمانة وسط كل هذه التحديات، فاعلموا أنكم لستم وحدكم. فالشعب المصري كله يقف خلفكم، بكل أطيافه وطبقاته، مؤمنًا بقدرتكم، مشدودًا على أيديكم. لقد كانت مصر دائمًا مدرسة الصمود، وفي كل معركة كان الشعب هو الظهر والسند، واليوم نحن معكم كما كنا دائمًا… صفًا واحدًا خلف قيادتنا، ووطنًا واحدًا لا يعرف الانكسار.