في خضم النيران والدخان التي غطّت سماء الشرق الأوسط في أكتوبر 1973، لم يكن الميدان العسكري وحده هو ساحة الصراع، بل كانت الدبلوماسية المصرية تخوض حربًا لا تقل أهمية، مسلّحة بالحكمة، والإرادة، وقراءة دقيقة لتوازنات القوى العالمية.
وقبل اندلاع العمليات العسكرية، لعبت الدبلوماسية المصرية دورًا أساسيًا في إعداد البيئة السياسية الدولية للعملية. ففي ظل عالم منقسم بين قوتين عظميين – الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – سعت القاهرة إلى تحييد المواقف الدولية العدائية، أو على الأقل كسب مساحة من الحياد تسمح بالتحرك العسكري دون تدخل خارجي فوري.
تم ذلك عبر خطاب سياسي مرن ومدروس، أوصل رسالة واضحة أن مصر لا تريد الحرب، بل تسعى إلى تحقيق العدالة واستعادة أرضها المحتلة بالطرق الممكنة، فكانت هذه الرسالة تُكرر في المحافل الدولية، في لقاءات القادة، وفي وسائل الإعلام العالمية، مما نزع شرعية الاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام الدولي وجعلت العالم يقف إلى جانبها وأمريكا وإسرائيل في الجانب الأخر.
ومع انطلاق المعركة في 6 أكتوبر، لم تتوقف القاهرة عن إرسال الرسائل السياسية إلى العالم، تؤكد فيها أن العمليات العسكرية ليست عدوانًا بل دفاع مشروع عن السيادة والكرامة الوطنية.
وفي مواجهة آلة إعلامية غربية تميل إلى الانحياز، واجهت الخارجية المصرية الموقف بشجاعة، حيث قامت بـ:
• تنظيم مؤتمرات صحفية عالمية لنقل الرواية المصرية.
• التنسيق مع حلفاء عرب وأفارقة وآسيويين لخلق جبهة دولية مساندة.
• التحرك الذكي داخل الأمم المتحدة للحفاظ على الضغط السياسي والدبلوماس.
ومع اقتراب نهاية الحرب، بدأت مرحلة دقيقة من التفاوض. وهنا، أثبتت الدبلوماسية المصرية مرة أخرى أنها قوة لا يُستهان بها، وفي مفاوضات الكيلو 101، ثم في جنيف، ثم في المسارات اللاحقة، تمسكت القاهرة بمبادئها: لا تنازل عن الأرض، ولا تفريط في الكرامة، ولا استسلام تحت الضغط.
واصلت الدبلوماسية المصرية جهودها لاستكمال استعادة الأرض، وكان من أهم محطاتها الزيارة التاريخية للرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس في نوفمبر 1977، وهي خطوة غير مسبوقة كسرت جمود الوضع السياسي، ومهدت الطريق لاتفاقية السلام الموقعة في مارس 1979، والتي ضمنت انسحاب إسرائيل من غالبية أراضي سيناء.
رغم توقيع اتفاق السلام، تنكرت إسرائيل لالتزاماتها ورفضت الانسحاب من طابا، متجاوزة مبدأ "الأرض مقابل السلام". حينها، خاضت مصر معركتها الجديدة بسلاح القانون والدبلوماسية، فشكّلت لجنة وطنية جمعت نخبة من الخبراء والدبلوماسيين، أعدّت ملفًا رصينًا يرسّخ الحق المصري. وبحُكم محكمة التحكيم الدولية في جنيف، انتصرت مصر، وعادت طابا إلى أحضان الوطن، في صفحة مشرقة من سجل الدبلوماسية المصرية.
لقد كتبت الخارجية المصرية في تلك الأيام صفحة ناصعة في كتاب السيادة الوطنية، أثبتت فيها أن قوة الدولة لا تقاس فقط بعدد الدبابات أو الطائرات، بل أيضًا بالعقل السياسي، وذكاء الكلمة، وحكمة القرار.