قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك انه عندما سُئِلَ ﷺ: «ما الإحسان؟» قال: (أن تعبد الله كأنك تراه). فانظر إلى الدقة: (كأنك) أي من شأنك أن تراه، فالكاف هنا يسمونها (كاف التشبيه). إذًا هذه ليست رؤية حقيقية، إنما هي رؤية تمثيلية، يعني: كأنك ترى، فهذا يشبه الرؤية لكنه ليس برؤية؛ لأن الله ﷻ لا يُرى في الدنيا بالأبصار، إنما تُقبل عليه القلوب.
قلوبُ العارفينَ لها عيونٌ ** ترى ما لا يراه الناظرون
فالعيون ليست هي العيون التي لها مقلة وطرف ومآقٍ، بل العيون تكون في البصيرة، فتكون أعلى مما هي عليه في البصر، فقلوب العارفين لها عيون، أي بصيرة وتوسُّم ونظر بنور الله، فترى بذلك ما لا يراه البشر الذين اعتادوا الرؤية الحسية بعيونهم هذه؛ لأن الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. فالإله لا يحيط به حدٌّ، ولا تنظر إليه مقلة.
وموسى كليمُ الله قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}. فهذا شيء فوق طاقة البشر، وفوق طاقة الأكوان، ولا يُرى بالعيون المجردة هذه.
ولذلك لما أخبر عن حال المؤمنين في الآخرة قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فذكر الوجهَ ولم يذكر العين.
كيف تعبد الله كأنك تراه
ويقرأ بعض العارفين بالله الحديث: (اعبد الله كأنك تراه)، أي راقب نفسك المراقبة التامة المستمرة، لدرجة أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يراقب نفسه بالأنفاس؛ فلا يدخل نفسٌ إلا وهو يتأمل ويتدبر ويستحضر عظمة الله، ولا يؤمِّل أن يخرج، أي أنه ينتظر الموت دائمًا وبصفة مستمرة، ولا يخرج نفسٌ ويأمل أن يدخل. فهل مثل هذا الإنسان تصدر منه المعصية؟ هل مثل هذا الاستحضار يصدر معه التقصير؟ هل مثل هذه الحالة يصدر منها الظلم؟ دائمًا سيكون مع الله، مع هذه الفكرة الدائمة، يقول: (اعبد الله كأنك تراه) ويعني بها مقام المراقبة.
ثم تأتي مرحلة أخرى: (فإن لم تكن تراه فهو يراك)، وهذه مرتبة أقل من المرتبة الأولى، فإنك لا تستطيع أن تكون دائم الذكر له على تلك المرتبة العالية التي وصل إليها عمر رضي الله عنه وأولياء الله الصالحون رضي الله عن الجميع. فاعلم أنه سبحانه يراك، ويعلم سرك ونجواك، فاتقه وخَفْ.
فمعنى (اعبد الله كأنك تراه): أنك لا تنسى أبدًا، وليستمر ذلك معك طوال يومك حتى تصل إلى درجة الفناء. فإذا فنيت عن نفسك، وعرفت أن وجودك يحتاج إليه سبحانه وتعالى، وهو لا يحتاج إليك، ووجدت أن الوجود الحقيقي إنما هو وجوده سبحانه، ووجودنا إنما هو وجود عارض وحادث وفانٍ وله نهاية، فإنك تصل إلى مرحلة الرؤية، فالفضل من قبل ومن بعد لله وحده.



