تناول الفصل الثاني من التقرير السنوي الثامن عشر لـ المجلس القومي لحقوق الإنسان، عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر خلال الفترة من 1 يوليو 2024 حتى 30 يونيو 2025 “حالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، والتي تشمل عدة أوجه جاء في صدرها الحق في الحياة الكريمة والضمان والتأمين الاجتماعي.
ويواجه المجتمع المصري تحديات متزايدة في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في ظل الزيادة السكانية التي تجاوزت 10 ملايين نسمة، وهو ما شكل ضغطًا متزايدًا على الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين.
كما ظهر تأثير الظروف الإقليمية بشكل واضح على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في ظل تأثر المصادر الأساسية للنقد الأجنبي، وعلى رأسها قناة السويس، التي انخفضت إيراداتها نتيجة تصاعد التوترات الأمنية في منطقة البحر الأحمر، واضطراب سلاسل الإمداد العالمية التي تعتمد فيها الدولة بدرجة كبيرة على الاستيراد من الخارج، وهو ما أسهم في ارتفاع معدلات التضخم، ومن ثم تراجع القوة الشرائية للمواطنين.
عبء الديون يمثل تحديًا
ولا يزال عبء الديون يمثل تحديًا جوهريًا على الموازنة العامة للدولة، حيث تستهلك فوائد وأقساط الديون الجزء الأكبر منها، بما يحد من قدرة الدولة على الإنفاق في مجالات الخدمات الاجتماعية، ويزيد من أعباء وتكلفة تنفيذ المشروعات والبرامج القومية، ويجعل خيارات الدولة محدودة في التعامل مع مطالبات الإصلاح الهيكلي للمالية العامة، خاصة في ظل السعي للدخول في شراكات وعلاقات تعاون مع مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
وعلى مدار السنوات العشر الماضية، أطلقت الدولة حزمة واسعة من المشروعات والبرامج والمبادرات التنموية المرتبطة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بهدف تحسين خدمات البنية الأساسية، وتعزيز الهياكل الداعمة للتنمية الاقتصادية، وتقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين، ومعالجة الاختلالات الهيكلية التي كانت قائمة في قطاعات الإسكان والصحة والطرق، والإمداد بخدمات الطاقة والمياه والصرف الصحي، فضلًا عن ضخ استثمارات كبيرة لتحقيق الأمن الغذائي من خلال استصلاح واستزراع مساحات واسعة من الأراضي الصحراوية، وتحسين كفاءة استخدام موارد المياه المحدودة لهذا الغرض.
ونتيجة للحروب والنزاعات الإقليمية التي يشهدها إقليم الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، تأثرت مصر بشكل كبير من خلال استقبالها لأعداد متزايدة من اللاجئين وطالبي اللجوء والنازحين إلى أراضيها فرارًا من الحروب والأوضاع الإنسانية المأساوية التي شهدتها دول الجوار، حيث تقدر الحكومة المصرية أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء والمقيمين الأجانب بالملايين، وهو ما شكل عبئًا إضافيًا على الخدمات العامة والبنية التحتية.
ومن ناحية أخرى، لا تزال معدلات التضخم المرتفعة تشكل عبئًا كبيرًا على كاهل الأسر المصرية، حيث تراجعت القوة الشرائية لمعظم المواطنين، وأصبحت العديد من الأسر تواجه تحديات متزايدة في توفير مقومات وضرورات الحياة.
وتشير بعض الشواهد إلى ارتفاع معدلات الفقر متعدد الأبعاد مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أنه لا يمكن الجزم بمستويات الفقر بدقة في ظل عدم نشر نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حيث يعود آخر تقرير منشور إلى عام 2021، والذي أشار إلى انخفاض معدلات الفقر إلى نحو 29% من السكان.
وخلال الفترة التي يغطيها التقرير، نجحت الدولة في معالجة مشكلة تخفيف أحمال الكهرباء التي شهدها العام السابق نتيجة انخفاض شحنات الغاز الطبيعي المستخدمة في تشغيل محطات الكهرباء، وهي المشكلة التي كان لها تأثير مباشر على رضا المواطنين وعلى كفاءة تشغيل المصانع والوحدات الإنتاجية، حيث تمكنت الحكومة من توفير الموارد اللازمة لتوفير الغاز الطبيعي، وهو ما أسهم في تراجع معدلات الشكاوى من انقطاع التيار الكهربائي.
كما واصلت الدولة خلال فترة التقرير تنفيذ المرحلة الأولى من مشروعها القومي لتنمية الريف المصري «حياة كريمة»، والذي يستفيد منه نحو 55% من سكان مصر، ووفقًا لما أعلنته الجهات المعنية، قاربت نسبة تنفيذ مشروعات المرحلة الأولى التي تستهدف 1477 قرية نحو 90%، كما أعلنت الحكومة استعدادها لتنفيذ المرحلة الثانية التي تستهدف نحو 1667 قرية، يعيش بها قرابة 21 مليون مواطن.
وشهدت الفترة التي يغطيها التقرير صدور تشريعات منظمة لبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من أبرزها قانون العمل وقانون الإيجار القديم، وقد أثار القانون الأخير، ولا يزال، موجة واسعة من الجدل المجتمعي نظرًا لتأثيره المباشر على مئات الآلاف من الأسر التي تقطن المساكن المؤجرة منذ عقود طويلة.
كما شهدت فترة التقرير وقوع عدد من حوادث الطرق التي كان لها صدى مجتمعي واسع، كان آخرها الحادث الذي شهده الطريق الدائري الإقليمي، وراح ضحيته 18 فتاة يعملن في أحد المشروعات الزراعية، وهو ما أثار جدلًا واسعًا حول قضايا جودة الطرق وأمان المواصلات العامة في مصر، خاصة في ضوء التوسع الكبير الذي شهده قطاع الطرق والنقل خلال السنوات الأخيرة، فضلًا عن الجدل حول مدى توافر معايير العمل اللائق، والالتزام بظروف عمل آمنة، وتطبيق معايير السلامة والصحة المهنية في العديد من المشروعات.
وخلال عام 2025، خضعت مصر للاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان، والذي انتهى إلى تبني عدد كبير من التوصيات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما تقدمت مصر في نوفمبر 2024 بتقريريها الدوريين الخامس والسادس إلى لجنة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الحق في الحياة الكريمة
زأشارت الحكومة إلى النصوص الدستورية، والإصلاحات التشريعية، وتطوير الأطر المؤسسية ذات الصلة، وتناولت السياسات والبرامج التنموية التي تعكس التفاعل الإيجابي للدولة في تعزيز حقوق الإنسان، ومن بينها مشروع «حياة كريمة»، ومبادرات الصحة العامة، وبرامج الحماية الاجتماعية، فضلًا عن التقدم المحرز في مجالات الحق في العمل، والتأمينات الاجتماعية، والسكن، والصحة، والتعليم، وحماية المرأة والأطفال وذوي الإعاقة، ومكافحة الفساد والتمييز.
ويستعرض المجلس القومي لحقوق الإنسان فيما يلي تقييمه لأهم جوانب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر خلال الفترة من يوليو 2024 وحتى 30 يونيو 2025، والتي جاء في مقدمتها: “الحق في الحياة الكريمة والضمان والتأمين الاجتماعي”:
تنص المادة (11) من الدستور المصري على أن يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي، وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعي بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين، وفقًا لما ينظمه القانون.
كما تنص المادة (17) على التزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي، ولكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي الحق في الضمان الاجتماعي بما يضمن له حياة كريمة في حالات العجز عن العمل، والشيخوخة، والبطالة، مع التزام الدولة بتوفير معاش مناسب لصغار الفلاحين، والعمال الزراعيين، والصيادين، والعمالة غير المنتظمة، وفقًا للقانون، وتعد أموال التأمينات والمعاشات أموالًا خاصة تتمتع بجميع أوجه الحماية المقررة للأموال العامة.
وفي سبيل ضمان الحياة الكريمة وتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على مختلف فئات المجتمع، سعت الدولة إلى تطبيق عدد من برامج الحماية والرعاية الاجتماعية والتنمية والتمكين الاقتصادي، بالتوازي مع تنفيذ إصلاحات اقتصادية وهيكلية تستهدف خفض العجز المالي واستعادة استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تقليص الدعم الشامل، والإلغاء التدريجي لدعم الطاقة، وخفض قيمة الجنيه المصري.
وخلال الفترة من يوليو 2024 حتى يونيو 2025، انضمت نحو 800 ألف حالة جديدة إلى برنامج «تكافل وكرامة»، مقابل تخارج نحو 600 ألف حالة، كما تم تطبيق زيادة بنسبة 25% في قيمة المساعدات النقدية المقدمة للمستفيدين، ليصل إجمالي الأسر المستفيدة من البرنامج خلال العقد الحالي إلى نحو 7.7 مليون أسرة، في مقابل تخارج نحو 3 ملايين أسرة.
وأسهمت مشروطية التعليم والصحة في تعزيز التزام أبناء الأسر المستفيدة بالحضور الدراسي بنسبة لا تقل عن 80% من أيام الدراسة، كما التزمت الأمهات الحوامل ومن لديهن أطفال حديثو الولادة بزيارة وحدات الرعاية الصحية الأولية للحصول على الخدمات العلاجية المختلفة.
كما تلقى المجلس القومي لحقوق الإنسان خلال الفترة محل التقرير عددًا من الطلبات والشكاوى المتعلقة بالاستفادة من برامج الدعم النقدي التي تقدمها الدولة، وعلى رأسها برنامج «تكافل وكرامة»، وقد تم الرد على هذه الطلبات بنسبة 100%.
وجاءت غالبية الطلبات المقدمة من النساء المعيلات، سواء مطلقات أو أرامل أو زوجات سجناء، وهو ما يعكس الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها هذه الفئات.
وفي الإطار التشريعي، أصدر مجلس النواب القانون رقم (12) لسنة 2025 بإصدار قانون الضمان الاجتماعي، ليحل محل القانون رقم (11) لسنة 2010، بهدف توسيع مظلة الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا في المجتمع المصري.
ويستهدف القانون كل مصري لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي وغير قادر على إعالة نفسه وأسرته في حالات العجز عن العمل والشيخوخة، كما تسري أحكامه على رعايا الدول الأخرى المقيمين في مصر وفق مبدأ المعاملة بالمثل، مع جواز الاستثناء بقرار من رئيس الجمهورية.
ويرى المجلس أن قانون الضمان الاجتماعي الجديد يمثل تطورًا إيجابيًا في منظومة الحماية الاجتماعية، لما يتضمنه من توسيع لقاعدة المستفيدين، وتحسين لآليات الاستهداف، وتقديم دعم نقدي مشروط وغير مشروط للفئات الأكثر احتياجًا.
ومع ذلك، يلاحظ المجلس أن تطبيق بعض الشروط قد يؤدي إلى تأثر الأسر الأشد فقرًا سلبًا في حال عدم قدرتها على الالتزام بهذه الشروط لأسباب خارجة عن إرادتها، كما أن النص على مراجعة قيمة الدعم كل ثلاث سنوات قد لا يتناسب مع سرعة التغيرات الاقتصادية، بما قد يؤدي إلى تآكل القيمة الحقيقية للدعم.
كما يشير المجلس إلى أن بعض الفئات قد تواجه صعوبات في الاستفادة الكاملة من أحكام القانون، مثل بعض النساء المنفصلات دون طلاق رسمي، وبعض فئات العمالة غير المنتظمة التي قد لا تتمكن من استيفاء متطلبات الحصول على شهادات التأمين.




