قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. هبة عيد تكتب: الخيط الرفيع.. الفرق الذي لا نراه

د. هبة عيد
د. هبة عيد

هناك في حياتنا مساحة دقيقة لا يلتفت إليها الكثيرون، لكنها المساحة التي تُصاغ عندها إنسانيتنا الحقيقية. مساحة لا تُعلن عن نفسها، ولا ترفع صوتها، ومع ذلك تحكم شكل علاقاتنا، ونبرة كلماتنا، وطريقة حضورنا في حياة الآخرين. تلك المساحة هي ما نُسميه الخيط الرفيع.

فهو ليس موقفًا عابرًا، بل حالة وعي. هو اللحظة التي نقف فيها بين خيارين متشابهين في الشكل، مختلفين في الأثر. بين أن نقول الحقيقة كاملة أو نُجملها برحمة، بين أن ننسحب بكرامة أو نبقى بدافع الخوف من الفقد، بين أن نغفر لنحيا أو نتشبث بالألم فنستنزف أعمارنا.

في العلاقات الإنسانية، يظهر هذا الخيط كاختبار أخلاقي دائم. اختبار لمدى قدرتنا على احترام المسافات دون أن نبني جدرانًا، وعلى الاقتراب دون أن نمتلك. كم من علاقة انهارت لا بسبب خطأ جسيم، بل لأن أحدهم لم ينتبه للخيط الرفيع بين الاهتمام والسيطرة، بين الغيرة والحصار، بين الحب والاعتماد العاطفي. فالحب الحقيقي لا يُقاس بمدى التعلّق، بل بمدى الحرية التي يمنحها. وهو يتمثل في الكلمة التي تكون جسرًا أو سكينًا، وقد تخرج من الفم بصورة واحدة لكنها تصل إلى القلوب بألف صورة. فهناك فرق دقيق بين الصراحة التي تُنقذ، والصراحة التي تُعرّي بلا داعٍ. وبين النصيحة التي تُقدَّم بمحبة، وتلك التي تُلقى من علٍ فتُشعر الآخر بصِغَره. الخيط الرفيع هنا هو النية، والطريقة، والتوقيت.

فالمجتمعات تُبنى أو تتصدّع عند هذا الخيط. خيط يفصل بين النقد المسؤول والتجريح، بين الاختلاف الذي يُثري والخلاف الذي يُفرّق، بين الجرأة الفكرية والفوضى الأخلاقية. حين يُهمل هذا الخيط، يتحول الرأي إلى صراع، والحق إلى سلاح، والاختلاف إلى عداوة. وحين يُحترم، يصبح الحوار أداة وعي، والتنوع مصدر قوة.

وعلى مستوى الذات، يكون الخيط الرفيع أكثر وجعًا وأصدق اختبارًا. بين القوة والإنكار، وبين الصبر وقمع المشاعر، وبين الرضا والتنازل عن الذات. كثيرًا ما نُخطئ حين نخلط بين التحمل والسكوت، فنظن أننا نسمو بينما نحن نتآكل. الخيط الرفيع هنا هو أن نعرف متى نُكمل، ومتى نتوقف، متى نمنح فرصة، ومتى نحفظ كرامتنا ونغادر.

الخيط الرفيع هو ما يجعل الإنسان إنسانًا لا آلة. هو ما يمنحنا القدرة على أن نكون حازمين دون قسوة، رحماء دون ضعف، واقعيين دون أن نفقد الحلم. هو ميزان داخلي لا يُدرّس، لكنه يُكتسب بالتجربة، وبالخطأ، وبالانتباه العميق لتفاصيل المشاعر.

ولعل أجمل ما في هذا الخيط أنه لا يطلب منا الكمال، بل الوعي. أن نُراجع أنفسنا قبل أن نُراجع الآخرين، وأن نُصلح نوايانا قبل أن نُصلح المواقف، وأن ندرك أن كثيرًا مما نندم عليه لم يكن بسبب ما فعلناه، بل بسبب الطريقة التي فعلناه بها.

وفي النهاية، الحياة لا تُقاس بالقرارات الكبرى فقط، بل بتلك اللحظات الصغيرة التي وقفنا فيها على الخيط الرفيع… فإما أن اخترنا الإنسانية، أو سقطنا دون أن نشعر.

والنجاة دائمًا، كانت لمن تعلّم كيف يسير عليه بقلبٍ حاضر، وعقلٍ متزن، وروحٍ تعرف أن اللطف ليس ضعفًا، بل أرقى أشكال القوة.