في أواخر ديسمبر 1968، وبينما كان العالم يغلي بالاضطرابات السياسية والاجتماعية، اتخذت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» قرارا جريئا غير مجرى التاريخ.
أرسلت الوكالة ثلاثة رواد فضاء في رحلة غير مسبوقة إلى القمر، لتتحول تلك المهمة من مغامرة علمية محفوفة بالمخاطر إلى رسالة أمل للبشرية جمعاء.
وبعد أكثر من نصف قرن، تعود الأسئلة نفسها إلى الواجهة مع اقتراب إطلاق مهمة «أرتيمس 2» عام 2026 هل يستطيع القمر مرة أخرى أن يكون منقذًا لعام صعب؟
عام مضطرب ورسالة من الفضاء
جاءت مهمة «أبولو 8» في وقت استثنائي فالولايات المتحدة كانت تعيش واحدة من أكثر فتراتها قسوة، ورغم ذلك بدا إرسال بشر إلى القمر مغامرة أقرب إلى الحلم المستحيل، لكنها حملت في طياتها رغبة عميقة في استعادة الثقة والقدرة على الإنجاز.
قرار جريء بعد مأساة
لم يكن الطريق إلى القمر مفروشا بالنجاحات فقبل عام واحد فقط، هزت كارثة «أبولو 1» برنامج الفضاء الأمريكي، بعدما أودت بحياة ثلاثة رواد خلال اختبار أرضي.
ورغم ذلك، قررت «ناسا» تجاوز الخطة التدريجية، والمضي مباشرة نحو إرسال مهمة مأهولة إلى مدار القمر باستخدام صاروخ «ساتورن 5»، الأقوى في العالم آنذاك، ومركبة تعتمد على محرك واحد لا يحتمل الفشل.
أول خطوة خارج مدار الأرض
بعد ساعتين ونصف من الإقلاع، صدرت العبارة التي دخلت التاريخ «أبولو 8، أنتم جاهزون للانتقال إلى القمر». كانت تلك اللحظة إيذانا بأول رحلة بشرية تغادر مدار الأرض.
وبعد ثلاثة أيام من السفر في الفضاء السحيق، دخل الرواد مدار القمر على ارتفاع لا يتجاوز 60 ميلًا من سطحه، ليصبحوا أول من يشاهد تضاريسه عن قرب.
صورة غيرت نظرة البشر لأنفسهم
اللحظة الأشد تأثيرًا لم تكن مخططة فعندما شاهد الرواد الأرض ترتفع فوق أفق القمر، التُقطت صورة «شروق الأرض» الشهيرة، التي أعادت تعريف نظرة الإنسان إلى كوكبه.
ظهرت الأرض ككرة زرقاء صغيرة، هشة ومعلّقة في ظلام الفضاء، لتصبح الصورة رمزا عالميا لوحدة المصير البشري.
«عيد الميلاد القمري»
في ليلة عيد الميلاد، بث طاقم «أبولو 8» صورا حية لسطح القمر، وقرأوا مقاطع من سفر التكوين، ليُخلد ذلك اليوم باسم «عيد الميلاد القمري».
لم يكن الإنجاز علميا فحسب، بل معنويا أيضا، إذ أعاد الأمل لأمة أنهكها عام قاسٍ.
وسارعت مجلة «تايم» إلى اختيار الرواد الثلاثة «رجال العام»، بينما اختزلت برقية واحدة مشاعر الملايين بعبارة مؤثرة «لقد أنقذتم عام 1968».
عودة إلى القمر بعد نصف قرن
اليوم، تقف «ناسا» على أعتاب فصل قمري جديد مع مهمة «أرتيمس 2»، المقررة في عام 2026.
وتهدف المهمة إلى إعادة البشر إلى محيط القمر لأول مرة منذ عام 1972، في إطار برنامج طموح يسعى إلى ترسيخ وجود بشري مستدام على سطحه، تمهيدًا للانطلاق نحو المريخ.
تحديات الحاضر وسؤال المستقبل
لكن «أرتيمس 2» تأتي في توقيت لا يخلو من التحديات، إذ تواجه الوكالة ضغوطا مالية وإدارية، إلى جانب تساؤلات حول الجدول الزمني والتكلفة.
ويرى مؤرخو الفضاء أن إرث «أبولو 8» لا يكمن فقط في الإنجاز التقني، بل في الجرأة على اتخاذ القرار وسط عدم اليقين.
هل تتكرر المعجزة؟
في عام 1968، حمل ثلاثة رواد عالمًا منقسمًا إلى القمر، وأعادوا إليه الإيمان بالإمكان واليوم، ومع اقتراب «أرتيمس 2» من الانطلاق، يبقى السؤال مفتوحًا هل تستطيع البشرية استدعاء تلك الشجاعة الهادئة مرة أخرى، ليصبح القمر من جديد رسالة أمل في زمن مضطرب؟





