الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كان زمان




عبارة تخرج من أفواهنا بنبرة تصحبها الحسرة أحيانًا، والحنين والألم أحيانًا أخري، تنطلق بتلقائية عندما يمر أمام أعيننا شريط الذكريات ، فنتذكر الماضي بفرحه وألمه، أتذكر أمي وجدتي والبيت الكبير ولمة العائلة ، حنين يأخذني إلي ذكريات الطفولة والصبا، الشوارع النظيفة، الأزياء الراقية، أصدقاء الطفولة، المرح والفرح ، والحزن أحيانًا ، المشاكل التي تحزننا لم تعد كما كانت، الأعباء زادت ، والهم يسكن القلوب.

كان زمان تجمعنا الأحلام ، نتمتع بطفولة بريئة وألعاب بدائية، لم يكن لدينا موبايلات أو إنترنت، لغة التواصل كانت مختلفة، أتذكر وأنا صغيرة عندما كانت أمي تسافر لفترات طويلة ، كنت أنتظر خطاب منها بلهفة حتي أشعر بوجودها معي ، كانت المراسلات لها سحر خاص تشعر عندما تقرأها بعطر كاتبها، تنبض العبارات بالدفء والشوق والحب والحنين.

كان زمان في ظل عدم وجود وسائل التواصل الحديثة، شريط الكاسيت الذي تسمع من خلاله صوت المسافر هو مفتاح السعادة اللامتناهية، عندما كنت أعلم أن أمي أرسلت لنا شريط بصوتها مع إحدي صديقاتها التي جاءت إلي مصر في زيارة كنت أتلهف شوقًا للقائها، وأعيد سماع الشريط مرات ومرات وأتمتع بصوت أمي العذب الرنان، وأتحسس من نبرات صوتها قدر إشتياقها وحبها لنا.

كان زمان بيت جدتي هو بيتنا جميعًا، نقضي فيه أجمل الأوقات، الأمر الوحيد الذي كان يؤرقني حين أذهب اليها هو وجود عدد من القطط التي كانت تربيها فيه خالتي رحمة الله عليها، كان المنزل كبير ويجمع الجميع، ملتقي سعادة لي ولأفراد العائلة، أتذكر أيام الأعياد ، و رائحة الكحك تفوح من المنزل، وأتذكر لحظات مرض جدتي ، ثم وفاتها والحزن الذي أصاب الجميع.

كان زمان من الطبيعي أن تمشي بأمان في شوارع المحروسة، دون أن تصادف من يتحرش بك ، كنت أستطيع أن أذهب إلي دكان عّم يس بائع الخردوات مع أختي أو صديقتي ، ونحن في سعادة وهدوء وسلام نفسي، نشعر أننا نمتلك الدنيا وما فيها لا نقلق من الغرباء، فالطريق آمن إلي حد كبير.

كان زمان ونحن في سن الطفولة نتجمع مع أبناء وبنات الجيران في مدخل العقار لنلعب سويًا ونمرح ونحلم ، ونتعارك أحيانًا علي أتفه الأسباب وسرعان ما تغلبنا طفولتنا ونتصالح ونعاود اللهو والمرح دون تفكير في مستقبل أو أعباء، وتمر الأيام مسرعة ونتفرق جميعًا ويذهب كل منا إلي مكان جديد يحيا فيه حياة مختلفة ، فلا نستطيع أن نتجمع من جديد، وتنقطع أخبار الصحبة الطيبة، وتُطويَ صفحة الطفولة إلي الأبد بما فيها من ذكريات مفرحة وأخري محزنة وتدور الأيام يحيا من يحيا ويموت من يموت وسبحان من له الدوام.

كان زمان تجمعنا ذكريات واحدة صوت أبلة فضيلة وهي تروي الحكايات التي نحيا من خلالها في عوالم وأزمان مختلفة نشعر فيها أننا نطوف في زمن أسطوري له سحر مختلف يمتلئ بالحكمة والموعظة تُحْفَر في عقولنا ولا تنتهي بمرور الزمان، ويأتي صوت الخالد فؤاد المهندس يشدو بكلمتين وبس في كل صباح ينتقد فيه بحرفية ومهنية مطلقة الأوضاع ويلفت نظر الجميع إلي ما وصلنا إليه من سلبيات تقضي علي نهضة المجتمع.

كان زمان شاطئ مدينة الإسكندرية حلم يتمناه الجميع ، حدائق المنتزه بجمالها ، سحر بحري والأنفوشي وسيدي بشر وغيرها من المناطق التي تشهد علي ذكريات العديد منا، وتمر الأيام ولَم تعد كمان كانت ملاذًا للجميع ، فالساحل الشمالي والقري السياحية المختلفة المطلة علي كلا البحرين الأبيض والمتوسط أفقدت مدينة الإسكندرية تميزها وسحرها الماضي.

عندما يأخذك الحنين إلي الماضي البعيد ببساطة ما فيه من إمكانيات ووسائل تتذكر دفء المشاعر الذي لم يعد له وجود بيننا في هذا الزمان، أحيانًا تتمني أن تعود بك الحياة للخلف للزمن البعيد لتحيا من جديد أسمي المشاعر الإنسانية التلقائية البسيطة التي كنّا نحياها دون أن نفكر في غد قد يحمل في طياته أعباءًا تُثقل كواهلنا وتفسد براءة الأيام.

التطور السريع الذي يحدث من حولنا ، له أكبر الأثر علي سعادتنا، وصحتنا، لم تعد البركة كما كانت، الطعام لم يعد كما كان يقال عليه في المثل الشعبي مطرح ما يسري يمري، علي العكس، المبيدات والهرمونات التي تحقن في بعض أنواع الفاكهة والخضروات والطيور أصبحت تسلب الصحة دون أن ندري، أزمة الضمير مع كثرة العدد قضت علي ملامح الفرح الطبيعية وأصبحت حياتنا لها مذاق مصطنع .

كان زمان الشعب مقسم إلي أغنياء وفقراء وطبقة متوسطة تعدل كفة الميزان، وكانت الفروق بين الشعب الكادح بسيطة ولا تكاد تُذكَر، واختلف الزمان واختلفت معه خريطة الشعب ، فلم تعد الطبقة الوسطي كما كانت من قبل تعدل الكفة وتحافظ علي توزان المجتمع، أصبح الجميع يلهث خلف الرزق، ليكفي إحتياجات أسرته من مأكل ومشرب وملبس وتعليم وصحة، فلم يعد هناك متسع من الوقت لدفء الأسرة والعائلة، لدرجة أوصلت البعض إلي عدم معرفته بأفراد عائلتة ، ربما لضغوط مادية تأخذ الوقت والجهد، وربما لمشاكل عائلية أدت إلي بنيان أسوار عالية بين أفراد العائلة الواحدة، وفِي النهاية يحيا البعض منا علي ذكريات كان زمان!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط