الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

توفيق الحكيم.. المسرح والسياسة والدين


كما حيرنا العملاق توفيق الحكيم في حياته بمواقفه ومعاركه ومسرحياته، فقد حيرني في اختيار عنوان ملائم يليق بقامته الأدبية والمسرحية الهائلة، ودوره كمجدد كبير وباعث للنهضة الفكرية.

وربما الحيرة في وضع عنوان مناسب يليق بقامة الحكيم، تشبه الحيرة أثناء حياته الطويلة الممتدة، التي برع الحكيم فيها في المسرح، وفتح بابًا فنيًا لم يكن معروفا من قبل، وربما لا أتجاوز اذا قلت أنه فتحه لنفسه ثم أغلقه بوفاته. بعدما تعلم معاصروه منه فن كتابة المسرحية، وتألقوا خلال وجود الأب والمعلم، ثم بوفاته اقتصرت مسرحيات مصر على التهريج والكوميديا والعبث

توفيق الحكيم أديب هائل ومجدد كبير، وحتى اللحظة وأنا اكتب المقال أجد صعوبة في الاقتراب من فكره ومعاركه.

لكنه الحب والتعلق الشديد الذي يغلبني، والرغبة في الاقتراب من فكره، وتقديم ملمح من ملامح فكره وحياته.

وهنا.. يمكنني التوقف بتواضع أمام محطات المسرح والسياسة والدين في حياة توفيق الحكيم.

ففي المسرح، لا يمكن لأحد مهما كان على خلاف معه أو منتقد لأعماله، أن ينكر الدور المؤسس لـ" توفيق الحكيم"، الذي شق طريقا فنيًا لم يعرفه أحد من قبله.

فهو صاحب أول مسرحية عربية ناضجة بالمعيار النقدي الحديث وهي مسرحية "أهل الكهف"، وصاحب أول رواية بذلك المعنى المفهوم للرواية الحديثة وهي رواية "عودة الروح"، اللتين نشرتا في بداية الثلاثينات من القرن الماضي.

كما أن أهمية ونقلة توفيق الحكيم المسرحية والأدبية، تعود إلى كونه أول مؤلف إبداعي استلهم في أعماله المسرحية الروائية موضوعات مستمدة من التراث المصري، وقد استلهم الحكيم هذا التراث عبر عصوره المختلفة، سواء كانت فرعونية أو رومانية أو قبطية أو إسلامية، كما أنه استمد أيضا شخصياته وقضاياه المسرحية والروائية من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المعاصر لمصر، عبر مختلف العصور، خلال رحلة أدبية وفكرية هائلة امتدت لأكثر من 6 عقود متواصلة.

في المسرح، مزج الحكيم بين الرمزية والواقعية علي نحو فريد يتميز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض، ففي أسطورة "إيزيس" التي استوحاها من كتاب الموتى، فإن أشلاء أوزوريس الحية في الأسطورة، هي مصر المتقطعة الأوصال التي تنتظر من يوحدها ويجمع أبناءها علي هدف واحد.

أما "عودة الروح" فهي الشرارة التي أوقدتها الثورة المصرية، وهو في هذه القصة يعمد إلي دمج تاريخ حياته في الطفولة والصبا بتاريخ مصر، فيجمع بين الواقعية والرمزية معا على نحو جديد.

وقد تجلت مقدرة توفيق الحكيم الفنية، في قدرته الفائقة على الإبداع وابتكار الشخصيات وتوظيف الأسطورة والتاريخ على نحو يتميز بالبراعة والإتقان.

وكان الاستقبال الهائل، لمسرحيته الشهيرة أهل الكهف حدث أدبي وفكري بامتياز في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، فالحكيم عاد لقصة شهيرة في التراث الديني، وأحياها وخلق قصصها على نحو بديع وكأنه عاش مع أهل الكهف وفهم معاناتهم وصور حيواتهم على نحو غير مسبوق.

وبعد "أهل الكهف"، توالت أعمال الحكيم المسرحية، ومع كل عمل تتجلى مقدرته وقدرته على تحريك شخصياته الفنية واختلاق مصائرها وحيواتها بشكل إبداعي معجز.

فكتب أهل الكهف، وعودة الروح، وتلتهما مسرحياته شهرزاد، والخروج من الجنة، ورصاصة في القلب، والزمار. وبنك القلق والسلطان الحائر وعشرات غيرهم.

تميزت مسرحيات الحكيم، بأنها أعمال أدبية وفكرية هائلة، قرئت في زمنها وتقرأ اليوم وكأنها مكتوبة منذ ساعات.

وبشكل شخصي، فقد توقفت خلال قراءاتي لكثير من أعمال توفيق الحكيم، أمام "أهل الكهف" و"بنك القلق" و"السلطان الحائر" واعتبرها من أنضج أعماله وأكثرها إثارة للفكر والجدل والواقعية وليست الرمزية، لأنه من السهل جدًا إسقاط أحداثها على الواقع.

أما المحطة الثانية، التي أتوقف فيها أمام مسيرة الأب والمعلم توفيق الحكيم، فهى محطة السياسة، وهذه كانت محطة شائكة طيلة حياته، ولعلي واحد ممن افزعهم كتابه "عودة الوعي"، وقد قرأته قبل أكثر من عشرين سنة في مكتبة الجامعة، ولا زلت اتذكر صداه جيدا واللغة شديدة الوضوح التي كتبه بها، وقد اعتبر"عودة الوعي" من أكثر الأعمال قسوة على العصر الناصري وعلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وعلاقة توفيق الحكيم بالسياسة شائكة ملتبسة، وإذا كانت رواية "عودة الروح" التي صدرت عام 1933 لتوفيق الحكيم بمثابة الشرارة لثورة 1952 وتبشيرها بالبطل المنتظر، ونظرة الجميع لهذه الرواية في زمانها بهذا المنظور، فإن كتابه "عودة الوعي" هو أكبر وأفظع نقد وجه لثورة يوليو، وهو يختلف جذريا عن دموع توفيق الحكيم على جمال عبد الناصر، والتي ذرفها فور رحيله! ،ومن المفارقات أن عبد الناصر كان يعتبر توفيق الحكيم من المقريبن له وكان يحترم فكره وأعماله أشد الاحترام، وفور وفاة عبد الناصر عام 1970 وأثناء تأبينه، سقط توفيق الحكيم مغمى عليه وهو يحاول تأبينه وبعد أن أفاق قال خطبة طويلة من ضمنها:

"اعذرني يا جمال، القلم يرتعش في يدي، ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر، لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك، لأن كل بيت فيه قطعة منك، لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك"..

ورغم هذا كله، سطر الحكيم عام 1972 نقدا هائلا في التجربة الناصرية في كتابه هذا"عودة الوعي"

السياسة أيضا كان لها محطة شهيرة مع توفيق الحكيم، ففي فبراير 1972م كتب بيده "بيان المثقفين" المؤيدين لحركة الطلاب، ووقّعه معه وقتذاك نجيب محفوظ، وبعدها ساءت علاقة الحكيم مع الرئيس السادات الذي انتقده بعنف وقال "رجل عجوز استبد به الخرف، يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، إنها محنة أن رجل رفعته مصر لمكانته الأدبية إلى مستوى القمة ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره".

لكن الصحفي الكبير الراحل، محمد حسنين هيكل، استطاع أن يلطف الاجواء بين الحكيم والسادات بعد ذلك.

أخر المحطات في حياة العملاق توفيق الحكيم، التي أتوقف فيها هنا في هذا المقال، هي كتاباته في الدين وفي أكثر من كتاب صدر في هذا المجال وخصوصا في أواخر حياته، وقد اثارت كتاباته الجدل الهائل، بعدما نشر سلسلة مقالات بعنوان "حديث إلى الله" في جريدة الأهرام عام 1983 وقامت الدنيا ولم تقعد ردًا على توفيق الحكيم، والمجال هنا ليس لتقييم هذه المقالات وخصوصا أن الحكيم كتب قبلها " أرني الله" ولا تجديد لأجواء المعركة لأني قرأت الكتاب الذي ضم هذه المقالات، ووجدتها ببساطة مناجاة مع الله خالق الكون، من رجل تخطى الخامسة والثمانين من العمر، ولم يكن فيها إساءة أو تجاوز او تطاول، لكنها العقد التي دفعت بالكثيرين للتطاول على الحكيم وكتاباته، والبخل عليه بالكتابة في هذا الجانب النوراني..

وبعد، ليقل أي احد ما يشاء في توفيق الحكيم، لكنه سيظل الأب الحقيقي للمسرح المصري، الذي يثير القضايا ويؤسس للنهضة والرقي. وسيظل المفكر الرهيب الذي حاور حماره وعصاه واستطاع من خلال الرمزين انتقاد الكثير من السلبيات في مجتمعنا..

رحم الله توفيق الحكيم صاحب " محمد" و"يوميات نائب في الأرياف"، "بجماليون"، عهد الشيطان، وحماري قال لي، وايزيس ولعبة الموت، والورطة، وعصا الحكيم والحمير والرباط المقدس، وشجرة الحكم والملك أوديب ومن البرج العاجي وغيرها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط