أدلى جو بايدن بتصريح في أوماها، نبراسكا، لم يكن مجرد تعليق سياسي عابر، بل تسليط ضوء على أزمة أعمق داخل الديمقراطية الأمريكية نفسها. تصريح بايدن كشف القلق من أن مؤسسات الدولة الأمريكية، التي لطالما شكلت نموذجًا عالميًا للحكم الديمقراطي، تواجه تهديدات جدية من تيارات شعبوية وضغوط سياسية تهدد التوازن بين القوانين وقرارات الأفراد أصحاب النفوذ، وتضع الديمقراطية على مفترق طرق تاريخي.
الخطاب لم يكن موجهًا فقط ضد شخص دونالد ترامب، بل ضد فكرة القوة الفردية التي تتجاوز المؤسسات والقوانين. الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع أو شعارات تُرفع في المناسبات، بل شبكة معقدة من القوانين والمؤسسات والوعي المدني اليومي. أي تآكل فيها، مهما بدا طفيفًا، يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة بالنظام كله، ويخلق فراغًا تتسلل إليه النزعات الشعبوية والفوضى السياسية. منذ أزمة انتخابات 2020 ورفض ترامب الاعتراف بالهزيمة، مرورًا باقتحام الكونجرس في 6 يناير 2021، وصولًا إلى السياسات التي أقرها ترامب في 2025، تتكرر المعركة بين القوة الفردية والالتزام بالمؤسسات. ما فعله ترامب منذ بداية ولايته الحالية يمثل تهديدًا للثوابت الدستورية ويختبر قدرة المجتمع على التمسك بالمبادئ الديمقراطية، ما يجعل أي خطاب عن الديمقراطية الأمريكية اليوم يحمل طابع التحذير والإنذار العميق.
تصريحات بايدن تكشف تحديًا مزدوجًا: الأول داخلي، لاستعادة ثقة المواطنين بالمؤسسات، وتحقيق التوازن بين السلطات، ومواجهة الانقسامات الاجتماعية العميقة التي أصبحت جزءًا من النسيج الأمريكي. الثاني خارجي، وهو ما يضيف بعدًا مهمًا: فقد انتقد بايدن ضمنيًا تدخل الولايات المتحدة في شؤون الشعوب الأخرى تحت زعم ترسيخ الديمقراطية، في حين أن الديمقراطية داخل أراضيها تواجه أزمة ثقة حقيقية بالمؤسسات الأساسية. هذا التناقض يوضح أن القوة الخارجة ليست بالضرورة قوة أخلاقية، وأن الديمقراطية الحقيقية تبدأ من الداخل قبل أن تُفرض على الآخرين. الولايات المتحدة، رغم تاريخها الطويل كنموذج عالمي، لم تنجح دائمًا في تطبيق المبادئ التي تنادي بها على أرضها، بينما تحاول فرضها على دول أخرى عبر التدخل السياسي والعسكري، ما يسلط الضوء على هشاشة مؤسساتها في مواجهة الضغوط الداخلية.
الأزمة الأمريكية بدأت فعليًا منذ انتخاب ترامب الأول في 2016، مرورًا بمحاولة تعطيل تنفيذ بعض سياسات الإدارة السابقة في 2017–2020، وصولًا إلى أزمة كوفيد والانتخابات الرئاسية 2020، حيث شهدت البلاد تراجعًا في ثقة المواطنين بالمؤسسات الانتخابية والقضائية. اقتحام الكونجرس عام 2021 لم يكن حدثًا عابرًا، بل علامة على تصدع مؤسسات دولة عريقة أمام الانقسامات الداخلية. خلال فترة 2021–2024، شهدت أمريكا سلسلة من الصراعات السياسية العنيفة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو ما جعل أي حديث عن الديمقراطية الأمريكية بمثابة اختبار للقدرة على حماية المبادئ الأساسية للدولة.
الخطاب ركز على رمزية الكرة التي أشار إليها بايدن، والتي تمثل المخاطر الناتجة عن تجاوز القوانين أو الاستهانة بالحقوق المدنية، أو التفريط في التوازن بين السلطات. الديمقراطية ليست حالة ثابتة؛ إنها تجربة يومية تتطلب مشاركة نشطة من المواطنين ووعيًا جماعيًا يحمي الدولة من الانقسامات الداخلية. هنا يظهر درس مهم: قوة الدولة تكمن في مؤسساتها القادرة على حماية الديمقراطية نفسها من الانقسام والفوضى. الولايات المتحدة، بالرغم من تاريخها الطويل، تظهر اليوم هشاشة واضحة، في حين أن الدولة المصرية استطاعت عبر عقود من العمل المؤسسي والسياسات الثابتة أن تبني مؤسسات قوية قادرة على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية، وتحافظ على وحدة الدولة واستقرارها السياسي والاجتماعي.
التجربة المصرية تختلف بشكل جذري؛ فالدولة لم تكتف ببناء مؤسسات، بل حافظت على استمرارية القوانين وتطبيقها بعدالة، وهو ما يجعل مؤسساتها أكثر صلابة في مواجهة الانقسامات، سواء على الصعيد الداخلي أو من خلال الضغوط الخارجية. منذ ثورة 1952 وحتى اليوم، مصر استطاعت حماية سيادتها الوطنية، مع تطوير الجيش والقضاء والإدارة المدنية لتعزيز استقرار الدولة. هذا يوضح الفرق بين نموذج دولة تقوم على المؤسسات الفعالة وبين دولة تواجه خطر الانهيار الداخلي على الرغم من تاريخها الطويل كنموذج عالمي.
الانقسامات الحالية في أمريكا ليست سطحية؛ فهي تنقسم بين تيارات ترى أن القوة الفردية يمكن أن تتجاوز المؤسسات، وبين تيارات تؤمن بأن القانون والدستور هما الضمانة الأساسية لبقاء الدولة. في مصر، على العكس، توضح التجربة كيف أن التركيز على سيادة القانون وتقوية مؤسسات الدولة يمكن أن يقلل من المخاطر التي قد تهدد الديمقراطية، ويضمن استقرار الدولة في الداخل والخارج. قدرة مصر على الحفاظ على مؤسساتها، من الجيش إلى القضاء والإدارة المدنية، تُظهر كيف يمكن للدولة أن تبني توازنًا بين القوة السياسية والاستقرار المؤسسي، بحيث تكون حماية الديمقراطية جزءًا من صلب الدولة نفسها وليس مجرد شعارات.
تصريح بايدن يعكس أيضًا أهمية الوعي الشعبي والتزام المواطنين بالقيم المؤسسية. الديمقراطية الأمريكية على المحك، والمستقبل يعتمد على قدرة المواطنين على التمييز بين الصواب والانحراف. مصر، من جانبها، أظهرت قدرة على دمج الوعي المدني مع قوة الدولة ومتانة مؤسساتها، ما يجعل الدولة أكثر قدرة على مواجهة التحديات دون المساس بوحدة المجتمع أو السيادة الوطنية. التجربة المصرية تُظهر أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد صناديق اقتراع أو حديث عن حقوق، بل نظام مؤسساتي متكامل قادر على الدفاع عن الدولة واستقرارها وحقوق المواطنين في الوقت نفسه.
من منظور أعمق، تصريح اليوم يسلط الضوء على علاقة السلطة بالمسؤولية. السلطة ليست هدفًا بحد ذاته، ولا هي وسيلة للهيمنة على الآخرين، بل وسيلة لإدارة الدولة وفق قواعد واضحة تحمي الحقوق الفردية والجماعية. تجاوز هذه القواعد، كما يشير بايدن، يمكن أن يحول القوة إلى أداة تدمير، ويعيد تشكيل الدولة بطريقة تقلل من قدرتها على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية. هنا تكمن المقارنة المهمة: الولايات المتحدة تواجه خطر فقدان مؤسساتها أمام الشعبوية والانقسامات، بينما مصر أظهرت قدرة على استخدام قوة الدولة لبناء استقرار مؤسسي وحماية سيادتها الوطنية.
التجربة الأمريكية الأخيرة تظهر أن تدخل الولايات المتحدة في شؤون دول أخرى تحت شعار نشر الديمقراطية غالبًا ما يكون على حساب استقرارها الداخلي. العراق، أفغانستان، ليبيا، وسوريا أمثلة على محاولات فرض نموذج ديمقراطي خارجي، بينما التحديات الحقيقية على الأرض الأمريكية، من تهديدات الانتخابات إلى محاولات تقويض المؤسسات، تكشف عن ضعف القدرة على حماية الديمقراطية داخليًا. بالمقابل، مصر تمكنت من حماية مصالحها الوطنية داخليًا وخارجيًا في وقت واحد، مع الحفاظ على استقرار مؤسسات الدولة، ما يجعلها نموذجًا لكيفية إدارة القوة السياسية مع الالتزام بالقوانين ومصالح الدولة.
إنه تحذير صارم من أن الديمقراطية، حتى في بلد يعتبر نموذجًا عالميًا، يمكن أن تنهار إذا غابت مؤسسات الدولة أو ضعف الالتزام بالقوانين. الكرة التي أشار إليها بايدن ليست مجرد استعارة، بل تمثل اختبارًا لقدرة أمريكا على الاستمرار كنموذج مؤسساتي. كل خطوة نحو تجاوز القوانين أو إضعاف المؤسسات تزيد من احتمال فقدان الثقة، وتخلق فراغًا يمكن للتيارات الشعبوية أن تملأه، مما يضع الديمقراطية الأمريكية على مفترق طرق تاريخي. بالمقابل، قوة الدولة المصرية ومتانة مؤسساتها تضعها في موقع يمكنها من حماية سيادتها واستقرارها، وتقديم نموذج مختلف عن كيفية الحفاظ على الديمقراطية والسلطة في الوقت ذاته، رغم الضغوط الداخلية والخارجية.
في النهاية، تصريح بايدن في أوماها ليس مجرد كلام عن الوضع السياسي الراهن، بل تحليل لحالة الديمقراطية الأمريكية نفسها: هشاشة المؤسسات، عمق الانقسامات، والتناقض بين القوة الداخلية والخارجية، وأهمية التزام الشعب بالقيم الأساسية. الكرة التي بدأها تيار القوة الفردية ليست لعبة عابرة؛ إنها اختبار لقدرة الولايات المتحدة على الاستمرار كنموذج مؤسساتي، أو الانحدار إلى دولة تتبع الانقسامات والشعبوية على حساب القانون والمبادئ الأساسية. الدرس الواضح أن قوة الدولة ومتانة مؤسساتها، كما أظهرت التجربة المصرية، هي ما يحمي الديمقراطية ويضمن استقرار الأمة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.