قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عبد السلام فاروق يكتب: الاغتراب المعرفي في العصر الرقمي

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

عزيزي القارئ.. القضية التي أطرحها بين يديك ليست مجرد تحول تقني عابر، بل هي زلزال معرفي يهز أركان الفكر الإنساني منذ أن أدرك الإنسان ذاته عاقلاً ومفكراً. إنها علاقة الذكاء الاصطناعي بالتعليم العالي، لكنها، في جوهرها الأعمق، سؤال عن مصير الإنسان في عالم صاغه بيديه، ثم بدأ هذا العالم يخاطبه بلغة لم يتعلمها بعد. إنه امتداد لذلك السؤال الوجودي القديم الجديد أين مكان "الكائن المفكر" من "الآلة المصنوعة"؟

دعني أبدأ من حيث بدأ التفكير الإنساني نفسه من الدهشة. أتذكر وأنا أتأمل هذا المشهد، كيف أن التلميذ الذي كان يجلس ذات يوم أمام معلمه البشري، يستمع إليه بكل حواسه، يناقشه، يجادله، يتعلم منه كيف يفكر أكثر مما يتعلم منه المعلومات، فها هو اليوم يجلس أمام شاشة تقدم له معرفة جاهزة معالَجة، مختصرة، معبأة. لقد تحول الحوار الثنائي الحي، الذي كان يشبه النسيج المتين من الأسئلة والأجوبة والتأملات، إلى خطاب أحادي الاتجاه. لم يعد الاستاذ ينقل المعرفة فحسب، بل كان ينقل التجربة الإنسانية في التعلم، كان يخطئ فيصحح نفسه، يتلعثم فيفكر بصوت عال، يفرح لاكتشاف فكرة جديدة كما يفرح التلميذ. كانت العملية التعليمية تشبه رحلة استكشافية جماعية. أما اليوم، فبدا لي أن الذكاء الاصطناعي، برغم كفاءته المذهلة، يقدم المعرفة كما تقدم الطائرة وجبة الطعام: معبأة مسبقاً، موحدة، تفتقر إلى دفء الطهي الحي ورائحة الأواني.

وهنا تقودني الملاحظة إلى قلب الإشكالية، إلى ما يمكن تسميته "اغتراب العقل المتعلم". ففي عالم كارل ماركس، اغترب العامل عن منتجه، فلم يعد يرى روحه في الشيء الذي يصنعه. وفي عالمنا الرقمي، يغترب المتعلم عن عملية التعلم ذاتها. لم يعد ذلك الكائن الشغوف الذي يحفر في النصوص، يربط الأفكار، يتعثر ثم ينهض، يبني معرفته حجراً حجراً. لقد تحول إلى مستهلك سلبي لمنتج معرفي جاهز. لقد انتزعت منه متعة الاكتشاف وعذابه، انتزعت منه الملكية المعنوية للمعرفة التي يكتسبها. أصبحت المعرفة التي يتلقاها أشبه بفندق فاخر بناه آخرون، يدخله ليستمتع بكل وسائل الراحة، لكنه لا يعرف كيف بني حجر واحد من أساساته.

وتسألني: ولكن أليس الذكاء الاصطناعي أداة محايدة؟ ألا يقدم المعلومات بموضوعية تامة؟ هنا يكمن أحد أوهام عصرنا الكبرى وهم الحياد التكنولوجي. إن الذكاء الاصطناعي ليس كائناً نزل علينا من السماء بمعايير موضوعية مطلقة. إنه، في النهاية، ابن بيئته. إنه يتشكل بلغة مبرمجيه، وبرؤى الشركات المنتجة له، وبالبيانات التي يدرب عليها، وهذه البيانات تحمل في طياتها، كما تحمل المياه آثار التربة التي مرت بها، تحيزات الثقافات السائدة والأيديولوجيات الخفية. حين تطلب منه تحليل قضية فلسفية أو أدبية، فهو لا يحللها من فراغ، بل من خلال منظور قد يكون محدوداً أو مشروطاً. 

السؤال الجوهري إذن هو من يمسك بمفاتيح هذا المنظور؟ من يقرر ما هي المعرفة الصحيحة التي تقدمها الخوارزمية؟ إنه استلاب آخر استلاب الإرادة المعرفية. تخيل أن جامعاتنا، تلك الحصون التي كانت تنتج الفكر النقدي والمختلف، تتحول تدريجياً إلى قنوات تستقبل وتستهلك معرفة موحدة الشكل والمضمون، تنتجها خوازميات مركزية. ألا يشبه هذا، ولو من بعيد، أحادية الفكر التي حاربتها الجامعات عبر تاريخها؟

وهذا يقودنا إلى تحول أخطر في المفهوم ذاته للتعليم. لقد أصبحنا نعيش في ظل ما يسمى الرأسمالية المعرفية، حيث تتحول المعرفة إلى سلعة قابلة للتغليف والتسويق. وفي هذا السوق، يقدم الذكاء الاصطناعي على أنه الحل الأمثل الكفء والموفر. يمكنه أن يحل محل المحاضرة التفاعلية، أن يصحح الأبحاث آلياً، أن يلخص المراجع في ثوان. لكن هل التعليم هو مجرد نقل معلومات؟ كلا. التعليم الحقيقي، كما فهمه المفكر التنويري باولو فريري، هو ممارسة للحرية. هو فعل إنساني راق يتجاوز نقل المعلومة إلى تنمية الوعي، وإيقاظ القدرة على مساءلة الواقع، وتحرير العقل من قيود البداهات والأفكار المسبقة. كيف للآلة، بمنطقها الثنائي (1، 0)، أن تحاكي ذلك الحوار الروحي الذي يدور بين أستاذ وتلميذه حول معنى الحرية أو العدالة أو الجمال؟ كيف لها أن تزرع في نفس الطالب ذلك الشغف المعرفي الذي يجعله يسهر الليل ليكتشف فكرة، أو ذلك الإحساس الأخلاقي الذي يدفعه لرفض فكرة ظالمة؟ إنها تقدم الإجابة، لكنها لا تربي على طرح السؤال. وهي تقدم النتيجة، لكنها لا تعلم متعة الوصول إليها.

ولكن، هل معنى هذا أن ندير ظهورنا للتكنولوجيا ونتشبث بصورة رومانسية بالماضي؟ بالتأكيد لا. هذا موقف غير واقعي ولا حكيم. التحدي ليس في الرفض، إنما في التوظيف الحكيم. فالذكاء الاصطناعي، إذا أحسنا ترويضه وفهم حدوده، يمكن أن يكون أداة تعليمية عظيمة. تخيل أن يتحرر الباحث من ساعات طويلة من جمع البيانات الروتينية أو المعالجات الإحصائية المعقدة، ليركز طاقته على ما يختص به العقل البشري: التأويل، والربط بين المجالات المختلفة، والنقد الجذري، والإبداع الذي يتجاوز النمط. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون ذلك المساعد الذكي الذي يقدم للطالب مصادر متعددة، يلفت نظره إلى تناقض محتمل في بحثه، يساعده على تنظيم أفكاره. ولكن يجب أن يبقى مساعداً وأداة، لا فاعلاً ومنتجاً للمعنى. إنه مثل التلسكوب: أداة مذهلة توسع أفق رؤيتنا، لكنها لا تحل محل العين التي ترى والعقل الذي يفسر ما تراه.

إن ما نحتاجه هو إعادة تخيل جذرية للتعليم العالي في هذا العصر. لا أن نستبدل الإنسان بالآلة، أن نعيد توزيع الأدوار في عملية إنتاج المعرفة. لتقم الآلة بالمهام التكرارية والحسابية والجمعية. وليتفرغ العقل البشري للمهام التأويلية والنقدية والإبداعية والأخلاقية. يجب أن تتحول الجامعة من مصنع للمعلومات إلى واحة للحوار الوجودي.

حوار بين العقول البشرية بعضها البعض، وبينها وبين تراثها، وبينها وبين أسئلة المستقبل المصيرية. الجامعة هي المكان الذي يجب أن نتعلم فيه ليس ماذا نفكر، بل كيف نفكر. وكيف نفرق بين الفكر العميق والفكر السطحي، بين المعرفة الحية والمعرفة الميتة.

وهذا يقودني بالضرورة إلى ظاهرة أرى أنها تتقاطع مع إشكالية الذكاء الاصطناعي، وهي ظاهرة الاستلاب الفكري أو العبودية الفكرية التي تصيب المجتمعات الإنسانية، ولها في مجتمعنا أشكالها الخاصة. فكثيراً ما نتصور أننا نفكر بحرية، بينما نحن في الحقيقة نردد، نستهلك، ننساق. لماذا؟ لأن التفكير الحر شاق. لأنه يشبه السير في طريق وعر غير ممهد، بينما الانسياق مع التيار أو ترديد المألوف يشبه الانسياب في قناة مائية جاهزة. 

لقد لاحظت أن العقل البشري، بحكم تكوينه، يميل إلى اقتصاد الجهد. والتفكير النقدي العملي يتطلب جهداً إضافياً، فهو مراجعة للمسلمات، ومواجهة للذات، واحتمال للخطأ. أما قبول الأفكار الجاهزة، سواء من سلطة تقليدية أو من سلطة تقنية جديدة مثل الذكاء الاصطناعي، فهو يوفر راحة مؤقتة، لكنه في النهاية يقود إلى سجن فكري.

وأرى أن نظم التعليم التقليدية، للأسف، ساهمت في تعميق هذه المشكلة. فكثيراً ما ركزت على الحشو والحفظ والاسترجاع، على حساب الفهم والنقد والابتكار. لقد أنتجت عقلاً حافظاً بارعاً في ترديد ما قيل، لكنه عاجز عن إنتاج فكرة جديدة أو مساءلة فكرة قديمة.

وهذا العقل الحافظ هو التربة الخصبة للاستلاب، سواء كان مستلباً لتراث يفهم فهماً سلبياً، أو لمخرجات تقنية تقبل قبولاً أعمى. 

إن الذكاء الاصطناعي، في هذا السياق، قد يعمق الأزمة إذا استخدم كبديل عن عملية التفكير، لا كأداة مساندة لها. قد يتحول من تلسكوب يوسع الأفق إلى بديل عن العين نفسها. فكيف السبيل إذن؟ كيف نحفظ للإنسان مركزه كفاعل معرفي حر في هذا العصر الرقمي؟

البداية تكون من الوعي بالمشكلة. أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي أداة وليس غاية. أن نفهم أنه يحمل رؤى من صنعه، وبالتالي يجب أن نتعامل مع مخرجاته بنفس النقد الذي نتعامل به مع أي خطاب آخر. أن نعيد تأكيد أن جوهر التعليم هو تنمية ملكة الحكم المستقل لدى الطالب، كما قال كانط: كن جريئاً في استخدام عقلك.

ثم يأتي دور إصلاح المنظومة التعليمية. يجب أن تتغير أساليب التقويم من قياس قدرة الحفظ إلى قياس قدرة التحليل والتركيب والنقد. وأن تشجع المناهج على الأسئلة المفتوحة التي لا إجابة جاهزة لها في محركات البحث. وأن يعود الحوار والجدل وكتابة المقال التأملي إلى قلب العملية التعليمية، لأن هذه هي المهارات التي تميز العقل البشري.

وأخيراً، علينا أن ننمي الثقة المعرفية لدى أبنائنا. أن نعلمهم أن قيمة الإنسان ليست في قدرته على حفظ المعلومات، ففي ذلك تفوقت الآلة، بل في قدرته على فهم المعاني، وربط المجالات، وطرح الأسئلة الكبرى، وإصدار الأحكام الأخلاقية. أن نذكرهم بأن الحضارة الإنسانية العظيمة بنيت على الخيال، والإبداع، والتعاطف، والحكمة - وهي أمور لا تزال، حتى الآن، من اختصاص القلب والعقل البشري.
في الختام، أقول إن تحدي الذكاء الاصطناعي هو في حقيقته اختبار لنضجنا الفكري والحضاري. فهو مرآة عاكسة: إن استخدمناه لتعزيز إنسانيتنا، لتحرير وقتنا للتفكير في القيم والغايات والأسئلة المصيرية، كان نعمة. وإن استخدمناه كبديل عن التفكير، واستسلمنا لراحة الاستهلاك المعرفي السلبي، كان نقمة. المعركة الحقيقية هي معركة داخلية، في عقل كل منا هل نختار طريق الجهد الفكري لتبقى لنا سيادتنا على عالمنا المعرفي والأخلاقي، أم نختار طريق الراحة المؤقتة التي تهدد بأن تجعل منا مجرد ملحقات لتقنيات صنعناها بأيدينا؟

إن المستقبل لمن يفهم أن الذكاء الحقيقي ليس في سرعة الآلة في الإجابة، بل في عمق الإنسان في التساؤل.