ليست أم كلثوم مجرد صوتٍ غنائي عابر في تاريخ الفن العربي، بل حالة ثقافية وسياسية واجتماعية كاملة، تجاوزت حدود الطرب إلى مفهوم «الهيبة»، في شهادات الفنان الراحل سمير صبري، كما يرويها في كتابه «حكايات العمر كله»، تتجسد هذه الحقيقة بوضوح، حيث تتحول أم كلثوم من مطربة إلى «خط أحمر» لا يُمس، لا في الفن، ولا في السياسة، ولا حتى في العاطفة.
الطفولة.. حين نام الطفل أمام الأسطورة
تبدأ علاقة سمير صبري بأم كلثوم منذ طفولته المبكرة، وهو بعدُ لم يتجاوز الرابعة من عمره، حين اصطحبته والدته وخالاته الخمس – وهنّ رئيسات جمعيات خيرية بالإسكندرية – إلى أحد حفلاتها الخيرية بمسرح الحمراء، لم يكن الطفل الصغير مفتونًا بالصوت أو الموسيقى، بل نام طوال الحفل، مفضّلًا موسيقى محمد فوزي وليلى مراد وأفلام فريد الأطرش الاستعراضية.
لكن ما لم يدركه الطفل آنذاك، أن أم كلثوم لم تكن تتقاضى أجرًا عن حفلات الجمعيات الخيرية، بل كانت – رغم أجرها الذي بلغ ألف جنيه للحفلة – تتحمل بنفسها أجر الفرقة الموسيقية، في موقف يعكس فهمها المبكر لدورها الاجتماعي والوطني.
الإذاعة المصرية.. دولة داخل دولة
حين التحق سمير صبري بالإذاعة المصرية، اكتشف الوجه الآخر لكوكب الشرق. فوجودها في استوديو 35 كان يعني حالة طوارئ كاملة: ممنوع المرور، ممنوع الضجيج، وممنوع الاقتراب، كانت الإذاعة تُدار بمنطق الدولة، وأم كلثوم هي «رئيسها غير المعلن».
من خلف زجاج غرفة مهندس الصوت، شاهدها سمير صبري لأول مرة عن قرب: أنيقة، صارمة، ترتدي نظارتها السوداء، تجلس في مواجهة الفرقة الموسيقية كقائد أوركسترا لا يقبل الخطأ، هنا فقط بدأ يدرك معنى «الإحساس» وعبقرية الصوت.
أنت عمري.. حين تدخلت السياسة في الفن
يروي سمير صبري كواليس ميلاد أغنية «أنت عمري»، لقاء السحاب التاريخي بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عام 1964، في لحظة سياسية حرجة عقب الانفصال عن سوريا وهزائم حرب اليمن.
بحسب ما سمعه داخل الإذاعة، فإن جمال عبد الناصر نفسه طلب من العملاقين التعاون، باعتبارهما القوة الناعمة القادرة على إعادة الروح للشارع العربي.
ويكشف أن تغيير مطلع الأغنية من «شوقوني عينيك» إلى «رجعوني عينيك» لم يكن تفصيلاً فنيًا بسيطًا، بل قرارًا كلثوميًا محسوبًا، يؤكد سيطرتها الكاملة على النص واللحن.
حفلة واحدة صنعت أسطورة
حين شاهد سمير صبري أم كلثوم لأول مرة على المسرح، لم يرَ مطربة، بل ممثلة تؤدي فيلمًا كاملًا بالصوت وحده، ساعتان من الغناء، حركات محدودة باليد والمنديل، وصوت «كاميرا» ينقل الإحساس بدقة مذهلة.
بعدها عاد إلى منزله مذهولًا، ليبدأ عشقه الحقيقي للست، ويحضر حفلاتها الإذاعية من الركن المخصص للإذاعة أو من الصالة كلما سنحت الفرصة.
غضب كلثومي.. وخصام مع عبد الحليم
يكشف الكتاب واحدة من أشهر أزمات الوسط الفني: الخلاف بين أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، بدأت الأزمة في حفلة 23 يوليو بنادي ضباط الزمالك، حين أطالت أم كلثوم الغناء، فصعد عبد الحليم إلى المسرح في ساعة متأخرة وقال ما اعتبرته إهانة غير مباشرة.
تفاقم الغضب، وشطبت أم كلثوم اسم عبد الحليم من حفلة العام التالي بنفسها، في مشهد يعكس قوة نفوذها.
ورغم تدخل المشير عبد الحكيم عامر، ظل الغضب قائمًا، حتى انتهى في لحظة إنسانية مؤثرة خلال حفل زفاف هدى عبد الناصر، حين قبّل عبد الحليم يدها وقال: «إنتِ المغنى والأصل»، ردت عليه بجملة بسيطة أنهت الخصام: «روح غني يا ولد وبطل همبكة».
باريس.. حين فرضت أم كلثوم شروطها
بعد نكسة 1967، خرجت أم كلثوم في جولات عالمية لدعم تسليح الجيش المصري، في باريس، وعلى مسرح الأوليمبيا العريق، كادت الحفلة أن تُلغى بسبب اعتراض صاحب المسرح على مقدمة سياسية ذكر فيها اسم القدس.
وحين طلب التزام «الحياد»، كان رد أم كلثوم حاسمًا: «لمّوا الآلات.. إحنا ماشيين»، لم تتراجع إلا بعد إعادة المقدمة كاملة، كما هي، لتغني بعدها واحدة من أعظم حفلاتها في التاريخ.
إشاعة المنع.. وسقوطها في لحظة
يروي سمير صبري واقعة منع إذاعة أغاني أم كلثوم من برنامجه «النادي الدولي»، بسبب مسؤول نافذ أراد الترويج لمطربة أخرى.
الإشاعة كبرت حتى وصلت إلى حد اتهام جيهان السادات بالغضب من أم كلثوم، وفي مواجهة مباشرة، احتضنت جيهان السادات أم كلثوم قائلة: «مين اللي يقدر يمنع الهرم الرابع عن الشعب؟»، وفي نفس اللحظة صدر قرار ببث أغانيها كل ساعة.
آخر حوار.. ووصية الكرامة
سجّل سمير صبري آخر حديث تليفزيوني مع أم كلثوم في صالة كبار الزوار بالمطار، قبل وفاتها بشهرين، سألها: «لو ما كنتيش أم كلثوم.. كنتِ تحبي تكوني إيه»، أجابت بلا تردد: «حارس مرمى في النادي الأهلي.. اللي يدافع عن المرمى يدافع عن الأرض والعرض والشرف».
زواج سري.. وخط أحمر
يفتح الكتاب ملفًا شائكًا حول زواج أم كلثوم السري من الملحن محمود الشريف، الذي انتهى بعد أيام قليلة بقرار ملكي، رغم وجود وثيقة الزواج، رفضت ابنته إكرام نشرها، التزامًا بوصية والدها: «أم كلثوم خط أحمر»
من خلال هذه الشهادات، تتجلى أم كلثوم بوصفها امرأة دولة، تعرف متى تغضب، ومتى تتنازل، ومتى تضع حدًا لا يُتجاوز.
لم تكن مجرد مطربة، بل رمزًا للكرامة والانتماء، تعلم منها سمير صبري – كما يقول – أن بعض العلاقات، وبعض القيم، يجب أن تظل دائمًا.. خطًا أحمر.



