منذ حوالى شهر، جلست مصادفة مع أحد الشباب المحبط، والذي ظل يهاجم الدولة والسياسات وينتقد كل شئ، رغم علمي يقينا بأنه ليس له انتماءات سياسية.. وكنت أحاول أن أبث في نفسه الأمل، وأطالبه بعدم السلبية بأن نبدل ضيقنا من السلبيات إلى عمل إيجابي نحاول به الإصلاح، وأن نواجه الفساد بدلا من أن نلعنه في سرنا، لأن صمتنا عنه يعنى المشاركة فيه!!
وحاولت أن أنقل له شحنة الأمل التي كانت تملأني رغم الكثير من الإحباطات التي أراها، ولكن لأنني أعلم بأن الظروف والمشاكل التى تحيط بنا شديدة التعقيد وأصعب مما نتصور، لذلك دائما ما ألتمس العذر فى الإخفاقات التى تحدث بسبب قرارات مسئولينا.
حتى فاجأني بما شاهده أثناء رحلته إلى شرم الشيخ فى أكتوبر الماضي، حيث كان أحد العازفين المشاركين في الاحتفالية التي أقيمت بمناسبة مرور مائة وخمسين عاما على بدء الحياة النيابية فى مصر..وقد روى عن مظاهر البذخ الشديد التي رآها منذ ركوبه الطائرة التي نقلتهم إلى شرم الشيخ وأنواع الشيكولاتة الفاخرة التي كانت توزع بكميات مهولة على المسافرين والضيوف!!.. ثم الإقامة هناك فى الفنادق الخمسة نجوم التي استقبلت ضيوف المجلس.
وكان يتعجب من كم البذخ في ظل الظروف الطاحنة التي نمر بها.. ولم أجد ما أبرر به ذلك رغم انحيازى الكامل لكافة مؤسسات الدولة ودفاعى عنها وخاصة بعد التجارب الأليمة التى مرت بنا خلال السنوات الماضية، والتى شعرنا فيها بمحاولات البعض تصيد الأخطاء لمحاولة إسقاط مؤسساتنا العريقة.. ولكن رغم ذلك لا يمكنني أن انحاز لما لا يتقبله عقلي وما يتنافى مع ضميري!!
فلا يعقل أن يتحمل الشعب وحده الضغوط ونطالبه بالتقشف والصبر ونحن نرى مظاهر الإسراف فى كثير من مؤسسات الدولة!!..وقد فوجئنا بما أثاره النائب/محمد أنور السادات عن الملايين التى خصصت لشراء سيارات للبرلمان، منهم ثلاث مصفحة لرئيس البرلمان ووكيليه، بالإضافة إلى 25 سيارة بديلة لتلك التى تم تكهينها والتى قيل أنه لم يمر على شرائها سنوات طويلة!!.
ورغم اختلافي مع الكثير من مواقف النائب/السادات، وما أثير عن تسريبه لمشروع قانون الجمعيات الأهلية لسفارت أجنبية نوفمبر الماضى، وما ترتب عليه من قرارات بإحالته للتحقيق أمام لجنة القيم، إلا أن ما أثاره استفز أغلب المصريين، وخاصة في الظروف التي نعيشها والتي يعتصرنا فيها الغلاء الفاحش مع ثبات الدخل..كما يبرهن ذلك على أن هناك الكثير من الأموال التى يتم إنفاقها فى أوجه لا يرضى عنها الشعب.
وبغض النظر عن الضرورة الأمنية التى تقتضي تأمين رئيس مجلس النواب بشراء سيارة مصفحة، وأن شراء السيارات جاء بناءا على طلب وزير الشئون القانونية فى 2015 قبل إنعقاد المجلس الحالى، إلا أن ما لفت نظرى فى البيان الذى أصدرته الأمانة العامة للمجلس أن المبلغ الذى تم تخصيصه لشراء السيارات كان يتضمن سيارتين مرسيدس لوكيلي المجلس، وقرروا إستبدالهما بعد ذلك بسيارتين مصفحتين بنفس المبلغ للضرورة الأمنية..ولا أعلم لماذا مرسيدس وهم يطالبوننا بالتقشف؟!.وهل كان وضعنا فى 2015 أفضل مما نحن فيه؟!.. وهل بالفعل كان هناك ضرورة ملحة لتكهين السيارات؟!
وللحقيقة "كلمة:التكهين " تثير في نفسي الريبة رغما عنى، منذ شاهدت فى طفولتى أحد كبار الفنانين يقوم بإرجاع ما يشبه قطعة أثاث رديئة تشبه الآلة الموسيقية، وذلك بدلا من آلة قيمة كان قد إستعارها من أكاديمية الفنون!!.
ونظرا للفساد تم قبولها منه باعتبار أنه سيتم تكهينها.. رغم أن الآلات الوترية تحديدا ترتفع قيمتها كلما زاد قدمها!!..وبالعودة إلى سيارات البرلمان فالمشكلة ليست فيها فقط، وإنما هناك الكثير من الأشياء المستفزة!!..فلازال هناك من يتقاضون مرتبات خيالية من أموال الدولة، ولازال بعض كبار المسئولين في المؤسسات الحكومية يتقاضون مئات الآلاف شهريا ويتقاضون ايضا نسبة من الأرباح!!..والتى تكون في بعض الأحيان أرباحا من بيع الأصول(الأراضى أو العقارات)ولا أعلم لماذا؟!!..وإلى متى؟!!..فى ظل مجتمع يئن من سوء الأحوال الإقتصادية..بل تطالب الحكومة بزيادة رواتب الوزراء والمحافظين!!..حتى أصبح الكثيرون يشعرون أن الشعب في واد والحكومة والبرلمان فى واد والنخب في واد آخر!!
الشعب يعاني ويصبر وهم أصابتهم التخمة ولا يتوقفون عن حث الشعب على ربط الأحزمة!!.. لذا فنحن نحتاج إلى وقفة وإلى تغييرات جذرية وقرارات تحقق التوزيع العادل للموارد، فكفى استفزازا للشعب وتخوينا لكل من يعترض..فلا ينكر عاقل ما نمر به من ظروف عصيبة تحتاج منا أن نتكاتف ونقف صفا واحدا فى ظهر الدولة ونساندها، ونصبر على كل ما نكتوي به من ظروف قاسية..ولكن هل معنى ذلك أن نغمض أعيننا عن الأخطاء؟!..أن نصفق للباطل ولقرارات الحكومة أيا كانت!!..وهل نكون بذلك نساند الدولة أم نغرقها؟!!
يقول الحديث الشريف:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فسأل رجل الرسولﷺ،انصره إذ كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟!..قال:تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن فى ذلك نصره".. فإذا أردنا أن ننصر الدولة يجب أن نشير للخطأ ونحاول تقويمه ولا نترك الماء يغمر السفينة ونحن منشغلون بالتهليل والتطبيل!!...هناك أخطاء بالغة حدثت من الحكومة واكتوينا من آثارها وما زال البعض يدافع عن تلك القرارات،أليس الإعتذار ومحاولة تصحيح الأخطاء وتصويب المسار أجدى من التبرير؟!..كفاكم بذخا من أموال الدولة وتعويل على جيوب الشعب.. ولتتذكروا قول الإمام على بن أبى طالب:"ما جاع فقير إلا بتخمة غني".