الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: من كلاسيكية فن المراسلة لمواقف سياسية..عاش "جبران"

صدى البلد

"أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك وألتفت تراني أمامك".

بهذه الكلمات الرائعة ودع جبران خليل جبران دنياه تاركا وراءه إرثا كبيرا لم يرثه العرب وحسب، بل كان للعالم أجمع نصيب منه، ذلك الفيلسوف والشاعر والأديب والفنان اللبناني، والذي عمل فى فن النحت ودرس علم الروحانيات؛ شاعر المهجر ورئيس الرابطة القلمية الذي بدأ حياته في بلدة "بشري" شمال لبنان في 6 يناير 1883 لعائلة مارونية فقيرة، عجز عن الإلتحاق بالمدرسة نظرا لظروف عائلته المادية، ورغم ذلك تعلم الإنجيل والعربية والسريانية على يد قسيس كان يأتي إلى المنزل، وهاجر مع والدته إلى أمريكا وهناك ألتحق بمدرسة للفنون وألتقى بمدرس "فريد هولاند دي" الذي اكتشف موهبته في الرسم، وقام بنشر بعض رسوماته على أغلفة الكتب، ثم عاد إلى لبنان لتعلم اللغة العربية والإلتحاق بمعهد للتعليم العالي، وأصدر العديد من المؤلفات والمقالات باللغات المختلفة.

أعماله لم تكن تعرف القيود يوما، فخلال فسحة ال 48 عاما التي عاشها جبران لم يدع كبيرة أو صغيرة إلا وصفها، فكان مجمل أعماله تتحدث عن تفاصيل حياته التي كانت مليئة بالأحداث والأوجاع بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى التي كانت لها أثر على شخصيته وكونت بداخله فنان وشاعر وفيلسوف ينظر إلى الحياة نظرة متعمقة وقدمت له أغنى مادة للتأمل في طبيعة القوة وماهية الضعف في النفس البشرية، وقام بتأسيس "الرابطة القلمية" مع مجموعة له من الأصدقاء التي عمدت على تجديد الأدب العربي واخراجه من قالبه المعتاد.

ما يميز مؤلفاته نمط الكتابة وسلاسة التعبير، والذوق الرفيع الذي لا بد أن تشعر بجماله وجلاله، وتلك التعبيرات والكتابات والوصف الذي يجعل من المستحيل ممكن، ومن أبرز مقالاته ومؤلفاته والتي اصدرها باللغة العربية: "الأرواح المتمردة، والأجنحة المتكسرة، ودمعة وابتسامة، والعواصف، وعرائس المروج"، بينما من أبرز مؤلفاته باللغة الإنجليزية "النبي" وهو مكون من 26 قصيدة شعرية تم ترجمتها إلى ما يزيد على 20 لغة، وأيضا "رمل وزبد، والأعلام للزركلي، ويسوع ابن الإنسان، وحديقة النبي".
فتجد فى طبيعته الفنان التعرف الحس، وأحيانا الواعظ، مما جعلت طبيعة مؤلفاته في اتجاهين إما سرج الخيال والاستمتاع بالحياة، أو ثائر علي أحداث ومجريات الواقع والحياة المكبلة بالشرائع والتقاليد.

وقد لعب الحب دورا كبيرا في حياة جبران، فكانت "مي" معجبة بمقالاته وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته "الأجنحة المتكسرة" التي نشرها في المهجر عام 1912، كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره وأسلوبه، وتناقش اراءه في الزواج والحب، ومن هنا كانت البداية، بداية لقصة الحب الكبيرة بين الشاعر والأديب جبران خليل جبران والأديبة اللبنانية "مي زيادة" التي عرفناها من خلال رسائل الحب التي لم تقتصر كونها تعبيرا عن شغف وحب ولكنها باتت من كلاسيكيات فن المراسلة عند العرب وفي العالم، وها قد نشأت علاقة الحب ما بين الإثنين ودامت زهاء عشرين عاما دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال!!

حيث كان شاعرنا الفيلسوف مقيما في أميريكا وكانت مي في مشارقها في القاهرة، ومع ذلك كانا أقرب قريبين، فكانت مي في حياة جبران الصديقة والحبيبة الملهمة له في نعظم كتاباته، وأكثر ما أحبه فيها هو عقلها المستنير الذى ظهر بكل وضوح في مجمل مقالاتها وكتبها، كما أعجب في تناولها لإنتاجه الأدبي والفني في مقالاتها، فقصة حبهما كانت من أثرها أن وسمته بصفات كثيرة من الإنسانية وجعلت الكثيرين يتسائل كيف كان جبران خليل جبران حتى تختاره مى زيادة دون الجميع حتى العديد حسدوه هلي حبها له ولما كانت تمثله زيادة من أيقونة مختلفة تعبر عن المرأة المثقفة.

وفى جولة سريعة عن الجانب السياسي في حياة جبران: تجد أن كتب التاريخ والأدب لم تصفه إلا " كتاب وشاعر وقاص ورسام" وذكر القليل عن نشاطه السياسي ومواقفه الوطنية، وإن كانت كتاباته عن الحرية خالية من أي مضمون سياسي إلا ان في حقيقة الأمر أن جبران كانت له بعض المواقف السياسية والتي علي أثرها هدد بطرده من الكنيسة وفرض الرقابة على كتبه من جانب حكومة سوريا الكبرى، فقد أيقن منذ صغره أن لبنان مقاطعة تركية وجزء مما يسمى بسوريا الكبرى، وراقب كفاح جبل لبنان للحصول على الاستقلال الذاتي، وتبنى تلك القضية؛ قضية الإستقلال عن طريق العمل علي توحيد الطوائف المختلفة والتخلص من الكراهية الدينية، وعليه نشر كتاب ''الأرواح المتمردة'' والذي شرح فيه معني الظلم الاجتماعي من قبل الإقطاعيين في لبنان خلال القرن التاسع عشر، وبدأ يهتم بنشاطه السياسي بعدما ألتحق ''بجمعية الروابط الذهبية'' التي عملت على تحسين أسلوب معيشة المهاجرين، ويعد بذلك أن جبران قد ساهم في بوسطن في جمعيتي ''المهاجر'' و ''مرآة الغرب''، وخلال هذا العام أعلنت ايطاليا الحرب على تركيا مما حفز الأمل للمهاجرين لإنشاء وطن قومي حر في سوريا الكبرى التي كانت تحت الإحتلال العثماني وقتها. يُفاجأ بآرائه في السياسة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالصهيونية وأحوال العرب واليهود في هذه البقعة من الأرض.

فمن المعروف عن جبران خليل جبران ذلك الشاعر والفيلسوف كونه يتمتع بمؤلفات وأدبيا فقط، ولكن ما يفاجئ به الكثيرين هو كونه صاحب موقف وآراء سياسية، وقد نشرت مقابلة صحفية نادرة له أجريت معه في نيويورك عام 1929، أي قبل وفاته بعامين، وعلى ما يبدو جاءت المقابلة بعد صدور ترجمة «النبي»، حيث انتدبت صحيفة صادرة بلغة الإيديش موفدها للتحدث إليه، وقد اقتبست المقابلة صحيفة «دافار» العبرية الصادرة بتاريخ 20 أكتوبر من السنة ذاتها، اذا تحدث عما يدور من أحداث في المشرق الذي هاجر منه قبل سنوات طويلة، والخببايا التي تحيكها القوى العظمى "بريطانيا" لهذه المنطقة في ذلك الأوان، كما تحدث في هذا اللقاء عن خلفية الأوضاع الراهنة حلول السلام بين العرب واليهود فقد كان يرى أن الإمكان الوحيد هو فرض النظام والهدوء بالقوة فائلا: "أن القضية المطروحة الآن هي قضية فرض وليست سلاما!! لهذه الغاية هنالك حاجة على الأقل إلى مائة ألف جندي بغية كبح جماح العرب"، كما يقول جبران.

فقد تمرد جبران وامتزج في مصاعب أبناء الفطرة فكتب في المعاناة نثرا، وفي الحكمة كان مرشد وواعظا، وهذا ما تجلي في معظم كتاباته، وحتي توفى فى نيويورك في عام 1931 عن عمر يناهز 48 عاما بعد صراع لم يدم طويلا مع مرض السل وتليف الكبد، وكان يتمني ان يدفن فى بلاده لبنان، وهو بالفعل ما تحقق في العام التالي بعد أن تم نقل رفاته إلى صومعته القديمة ودفن بها، ومن بعدها عرف المكان "بمتحف جبران" فيما بعد، وبعد ان رحل جبران عن عالمنا تاركا لنا عددا من أعماله الإبداعية المترجمة إلى العربية والإنجليزية إلى جانب مئات اللوحات التشكيلية وآلاف الرسوم.
ولم يكن شاعرا وأديبا، وفيلسوفا ورساما بارعا رسمت ريشته أوجاع الإنسانية وآلام الغربة وأتراحها، بل وصاحب مواقف سياسية وآراء هادفة، وظلت مؤلفاته وأقواله مدونة عبر الزمان يتردد عليها جميع المثقفين والعاشقين من محبي فن هذا "الجبران" لنراه أسطورة يتغنى جميع الأجيال وحالة إبداعية فريدة امسكت بتلابيب الذائقة الجمالية في شتى صورها.