الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الاحتفال بالمولد النبوي .. بماذا ردّ الشعراوي على القائلين ببدعته؟

احتفال المولد النبوي
احتفال المولد النبوي

الاحتفال بالمولد النبوي مسألة جدالية متكررة كل عام، ومع قطع المؤسسات الدينية الإسلامية في مصر والعالم الإسلامي بمشروعيتها، إلا أن لحديث بعض التيارات القائلة بالتحريم والبدعة تأثيره في إشاعة البلبلة والفوضى، فماذا قالت المؤسسات الدينية وماذا قال الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي إمام الدعاة ووزير الأوقاف الأسبق لحسم المسألة؟

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشري جميعه؛ بحسب دار الإفتاء المصرية فلقد عَبَّر القرآن الكريم عن وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه "رحمة للعالمين"، وهذه الرحمة لم تكن محدودة؛ فهي تشمل تربيةَ البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم، وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية، كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان، بل تمتد على امتداد التأريخ بأسره ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة: 3].

كما أن الاحتفال بذكرى مولد سيد الكونَين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة وغوث الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات؛ لأنها تعبير عن الفرح والحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل من أصول الإيمان، وقد صح عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أَجمَعِينَ» رواه البخاري.

قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري": [محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتَوعَّدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء من الأمور المحبَّبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]، ولما قال عُمَرُ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رَسُولَ اللهِ، لأَنتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلا مِن نَفسِي، قَالَ النبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا والَّذِي نَفسِي بيَدِه؛ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليكَ مِن نَفسِكَ»، فقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآن واللهِ لأَنتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِن نَفسِي، فقالَ النبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «الآن يا عُمَرُ» رواه البخاري] اهـ.

والاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم هو الاحتفاء به، والاحتفاء به صلى الله عليه وآله وسلم أمر مقطوع بمشروعيته؛ لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، فقد علم الله سبحانه وتعالى قدرَ نبيه، فعرَّف الوجودَ بأسره باسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته، فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحُجَّته.

تكريم الرسول ليوم مولده 

وفيما يتعلق باحتفال المولد النبوي الشريف، يقول الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي ردًا على من يقولون بعدم جواز الاحتفال بالمولد، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو أول من احتفل بمولده الشريف، حيث ذكر في حديثه مع سعيد أبو العنين في كتاب "أنا من سلالة أهل البيت"، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله أصحابه عن علة صيامه ليوم الإثنين قال: ذلك يوم ولدت فيه، يقول الشعراوي: فكأنه يكرم اليوم الذي ولد فيه.

وأكد الشعراوي أن المهم كيف نحيي ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أن من يحرم أي ذكر في أي وقت هو من يجب عليه أن يأتي بدليل التحريم وليس بدليل المشروعية مؤكدًا أن "الأصل في الشيء هو الحل"، مشددًا: «نحتفل بالمولد النبوي الشريف في إطار قوله تعالى: وذكرهم بأيام الله».

وبين أن المقصود بأيام الله هي الأيام التي تكون نصرًا لدينه وخذلانًا لأعدائه قائلًا: «الأيام ظرف للأحداث، فاليوم يشهر بالحدث الذي يقع فيه، "فإذا كان الرسول هو الخاتم ولا معقب بعده على مناهج السماء فإننا نعتبر البعث يوم والهجرة يوم والنصر في كل غزوة يوم، لكن كل هذه الأيام فرع عن يوم الميلاد، لذا فيوم الميلاد هو الأصل الأصيل الذي يتفرع عنه باقي الأيام التي نذكر الناس بها».

احتفال السلف بالمولد النبوي الشريف

وقد دَرَجَ سلفُنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفال بمولد الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات؛ من إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار، وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نص على ذلك غيرُ واحد من المؤرخين؛ مثل: الحافظَين ابن الجوزي وابن كثير، والحافظ ابن دحية الأندلسي، والحافظ ابن حجر، وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى.

وألَّف في استحباب الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف جماعةٌ من العلماء والفقهاء، بَيَّنُوا بالأدلة الصحيحة استحبابَ هذا العمل؛ بحيث لا يبقى لمَن له عقل وفهم وفكر سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وقد أطال ابن الحاج في "المدخل" في ذكر المزايا المتعلقة بهذا الاحتفال، وذكر في ذلك كلامًا مفيدًا يشرح صدور المؤمنين، مع العلم أن ابن الحاج وضع كتابه "المدخل" في ذم البدع المحدثة التي لا يتناولها دليل شرعي.

ما المقصود باحتفال المولد النبوي؟

الاحتفال في لغة العرب: من حَفَلَ اللبنُ في الضَّرع يَحفِل حَفلًا وحُفُلًا وتَحَفَّل واحتَفَلَ: اجتمع، وحَفَل القومُ من باب ضرب، واحتَفَلوا: اجتمعوا واحتشدوا.

وعنده حَفلٌ من الناس: أي جَمع، وهو في الأصل مصدر، ومَحفِلُ القومِ ومُحتَفَلُهم: مجتمعهم، وحَفَلهُ: جلاه فَتحَفَّلَ واحتَفَلَ، وحَفَل كذا: بالى به، ويقال: لا تحفل به.

وأما الاحتفال بالمعنى المقصود في هذا المقام، فهو لا يختلف كثيرًا عن معناه في اللغة؛ إذ المراد من الاحتفال بذكرى المولد النبوي هو تجمع الناس على الذكر، والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلم وإطعام الطعام صدقة لله، إعلانًا لمحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانًا لفرحنا بيوم مجيئه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

ومما يلتبس على بعضهم خلو القرون الأولى الفاضلة من أمثال هذه الاحتفالات، وهذا -لعمر الحق- ليس مسوغًا لمنعها؛ لأنه لا يشك عاقل في فرحهم رضي الله تعالى عنهم به صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن للفرح أساليب شتى في التعبير عنه وإظهاره، ولا حرج في الأساليب والمسالك؛ لأنها ليست عبادة في ذاتها، فالفرح به صلى الله عليه وآله وسلم عبادة وأي عبادة، والتعبير عن هذا الفرح إنما هو وسيلة مباحة، لكلٍّ فيها وجهةٌ هو موليها.

وإذا كان الله تعالى يخفف عن أبي لهب وهو مَن هو كُفرًا وعِنادًا ومحاربة لله ورسوله بفرحه بمولد خير البشر بأن يجعله يشرب من نقرة مِن كفه كل يوم إثنين في النار؛ لأنه أعتق مولاته ثُوَيبة لمَّا بَشَّرَته بميلاده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما جاء في "صحيح البخاري"، فما بالكم بجزاء الرب لفرح المؤمنين بميلاده وسطوع نوره على الكون؟ وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الشريفة جنس الشكر لله تعالى على ميلاده الشريف، فقد صح أنه كان يصوم يوم الإثنين ويقول: «ذاكَ يَومٌ وُلِدتُ فيه» رواه مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، فهو شكر منه عليه الصلاة والسلام على مِنَّة الله تعالى عليه وعلى الأمة بذاته الشريفة، فالأَولى بالأُمَّة الائتساءُ به صلى الله عليه وآله وسلم بشكر الله تعالى على منته ومنحته المصطفوية بكل أنواع الشكر، ومنها الإطعام والمديح والاجتماع للذكر والصيام والقيام وغير ذلك، وكلُّ ماعُونٍ يَنضَحُ بما فيه، وقد نقل الصالحي في ديوانه الحافل في السيرة النبوية "سُبُلُ الهُدى والرشاد في هَدي خيرِ العِباد" عن بعض صالحي زمانه: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه فشكى إليه أن بعض من ينتسب إلى العلم يقول ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مَن فرِح بنا فَرِحنا به".

وكذلك الحكم في الاحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين وإحياء ذكراهم بأنواع القُرَب المختلفة؛ فإن ذلك أمر مرغَّب فيه شرعًا؛ لما في ذلك من التأسي بهم والسير على طريقهم، وقد ورد الأمر الشرعي بتذكُّر الأنبياء والصالحين فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [مريم: 41]، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى﴾ [مريم: 51]، وهذا الأمر لا يختص بالأنبياء، بل يدخل فيه الصالحون أيضًا؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ [مريم: 16]؛ إذ مِن المقرر عند المحققين أن مريم عليها السلام صِدِّيقةٌ لا نبية، كما ورد الأمر الشرعي أيضًا بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5]، ومِن أيام الله تعالى أيامُ الميلاد وأيامُ النصر.

صوم يوم الإثنين من كل أسبوع

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم يوم الإثنين من كل أسبوع؛ شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده، واحتفالًا بيوم ميلاده كما سبق في حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في "صحيح مسلم"، كما كان يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه؛ شكرًا لله تعالى وفرحًا واحتفالًا بنجاة سيدنا موسى عليه السلام، وقد كَّرم الله تعالى يوم الولادة في كتابه وعلى لسان أنبيائه فقال سبحانه: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ [مريم: 15].

وقال جل شأنه على لسان السيد المسيح عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾ [مريم: 33]، وذلك أن يوم الميلاد حصلت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فكان تذكره والتذكير به بابًا لشكر نعم الله تعالى على الناس؛ فلا بأس مِن تحديد أيام معينة يُحتفل فيها بذكرى أولياء الله الصالحين، ولا يقدح في هذه المشروعية ما قد يحدث في بعض هذه المواسم من أمور محرمة؛ بل تُقام هذه المناسبات مع إنكار ما قد يكتنفها من منكرات، ويُنبَّهُ أصحابها إلى مخالفة هذه المنكرات للمقصد الأساس الذي أقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفة.