الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: ديسمبر.. حنين الذكريات ويقين الأمنيات

نهال علام
نهال علام

إنها الأعياد أشتاقها وأهابها، فهي وعاء الذكريات ودفتر الحكايات، وكل حكاية عرضة للسهو أو الخطأ إلا حكايات رأس السنة لا تقبل الخطأ، فهي مُعنوَنة بأرقامها، مثبتة في أوراق أعمارنا بالدقيقة والثانية، مؤرِخة للحظات انتصارنا وشاهدة على أوقات انكسارنا، فهي الكراسة التي رسمنا فيها ضحكاتنا واللوحة التي علقنا بها دموعنا، والصفحة التي أغلقناها لنستكمل على ظهرها ما بقي من أعمارنا.

اشتاق للأيام التي كنت فيها طفلة تنتظر الساعة الثانية عشر في صباح اليوم الأول من كل عام جديد، ليمر على بابها سانتا كلوز ويمطرها بالحلويات والألعاب والبلالين وحضن كبير، أعلم من الذي كان يتنكر في زي سانتا، ولكنه لم يكن لي في تلك اللحظة إلا سانتا كلوز الذي جاء من أقصى جبال الثليج على حيوان الرنة اللطيف، تسبقه الأجراس ويعلن عن قدومه هذا الصخب والأفراح، وتلك الزينة والماسكات البلاستيكية الرخيصة التي كنا نبتاعها من رجل على باب الله بجوار سور المدرسة، أو امرأة حكايتها على من خلقها تفترش الرصيف ببعض أقنعة، ومعها صافرات وبالونات لجل العيال تهيص، ولا يعلم كلاهما أنهما بائعا البهجة وذلك البصيص بعام قادم نأمل خيره وأخر راحل كنا في ذلك الوقت نشعر بالحيرة ونحن على وشك الموعد مع غيره، فلم تكن كل الأيام إلا مشاريع أحلام والشهور والسنوات هي متسع للأمنيات.

في مخيلتي كطفلة أن سانتا خاض الرحلة ليرسم على وجهي البسمة، ويطمأنني أن الدنيا كرحلته، محطاتها السعادة واستراحاتها الفرج واليُسر والفرح وتلك لها عادة. 


ولكن تمضي الأيام فأصبح أنا سانتا الذي يستقبل رسائل ابنائي والتي كنت أصر على أن تكون أحلاما مكتوبة وليست أمنيات شفهية مرسلة، ربما هي محاولة أن أعلمهم أن الآمال يجب أن تكون محسوبة، وقطعاً كانت تحايلاً أن احتفظ بوثيقة موقعة بأياديهم الرقيقة لأحتفظ بتلك الدقيقة في علبة الذكرى الرفيقة.

اعتدت أن أحضُر الهدايا وأتركها مع رسائل ممهورة بالحب دوماً وبأمنية معروفة لهم مسبقاً، على شاكلة ذاكر أكتر، أعتذر لمدرسك، اهتم بالتمرين، بطل شيكولاتة، أغسل أسنانك بضمير وغيرها من أمنيات هذا الزمن الجميل..


أضع الهدايا على باب البيت وأدق الجرس خلسة، وأعود أدراجي حتى لا يكتشف أحدهم أمري بغتة.. وببراءة أهرول معهم للباب لأسبهل من المفاجأة. 


والمفاجأة إنني كنت أتفاجأ بالفعل، وكأنني لم أمضي كل هذا الوقت في البحث والشراء والتحضير، ولا كل هذا المجهود في التخطيط والتفكير لأنفذ مخططي ولا ينكشف أمري ويعرف ابنائي إنني العميل السري لسانتا.

 

ولعلي لازلت متفاجئة كيف لمشاعري أن تكون واحدة في كلا الموقفين، وكأنها البارحة نفس الشغف والفرح والتصديق والانتظار لسانتا حتى وإن كان أنا!
فمتعة شراء هدايا الكريسماس لا يضاهيها جمالاً إلا الأمنيات التي تحملها تلك الهدايا.

 

واليوم بعد أن هرِم الكبار وكَبِر الصغار ولم يعد سانتا إلا ذكرى تحملها صوت سيناترا وشجن فيروز ورائحة بسكويت الجنزبيل والشيكولاتة الساخنة، وتلك الرسائل التي كان يكتبها أبنائي والمكدسة في علبة الحنين أقرأها واشتاق لذكراها من حين إلى حين، أضع العلبة تحت  شجرة تقاوم أن تكون بائسة فالكل مشغول عن تزيينها بعد أن كان الكل يتقاتل من أجلها، ولكن لم يشغلها هذا الانصراف فهي تقاوم لتؤدي دورها.

أتذكر طفولتي والتي كان فيها سانتا حاضراً لكن ربما لم تكن الشجرة فيها متاحة مثل طفولة أبنائي، كانت نبتة بنت القنصل هي البطل ولازلت أذكر فرحة أمي عندما يطرق بابنا الجنايني في نهايات نوفمبر محملاً بعدد من الأصائص بها أجود النباتات التي طلبها خصيصاً لها، وفي طرفة عين يكتسي المنزل بالنبتة الحمراء، وتقوم أمي احتفالاً بقدومها بتغيير مفارش الطاولات لتلك التي تحمل رسم المربعات الخضراء والبيضاء، وتزينها بالشموع الذهبية والفضية، وتعلق في غرفة المعيشة شراب سانتا الأحمر الكبير مصحوباً بالكثير من كلمات التحذير بعدم المساس بمحتوياته، فإذا أوشك العام على الانقضاء بدأنا الانقضاض على كل ما في جعبة هذا الشراب من حلوى وشيكولاتات.

ومرت السنوات وبدأت شجرة الأروكاريا أو شجرة الميلاد المخروطية أن تعرف طريقها للسوق المصري وتكون متاحة بكل أشكالها وأحجامها وأيضاً بتعدد ألوانها، وتزامن ذلك مع مولد أبنائي، فوجدتها سبيلي لأصنع لهم حقيبة ذكرياتي الخاصة التي سأتركها لهم يوماً، ليبحثوا عني فيها دوماً، عندما يحل ذلك العام الذي ستكون فيه الشجرة حاضرة.. أما أنا فلا..

لذا كانت العادة تزيين الشجرة من نصف ديسمبر بسعادة، في اليوم الأخير من امتحانات نصف العام نبدأ الاحتفال ونقضي ساعات وساعات نتشارك ونتعارك حول ترتيب الكور وتنظيم الألوان ومواضع القطن وخط سير حبل النور، ومع كل زينة تمتد بها أيادينا كنت أسألهم الدعاء لرب السماء أن يكون عاماً مليئاً بالستر والحب والرخاء، وأن نستودع الله العام الذي يمضي ونسأل الله برحمته أن يستودعنا للعام القادم فلا نخرج منه خائبين أو محرومين ولا مجروحين.

ولكن عندما كبر الصغار وأنشغل كل منهم بالحياة، وبدأت تسرقهم دوامات المسئوليات، ولم يعد لديهم من الوقت متسع من الساعات لنلتقي حول الشجرة وننثر الأمنيات، صدقاً أصابني الفزع فكيف للشجرة إن لم تتزين  أن تحمل الأمنيات للعام القادم لعله يكون عام تحقيق الأحلام وإن بدا الأمر كله مجرد تخاريف وأوهام، فهي عادة ولحظات سعادة نقضيها في الدعاء واليقين وكليهما عبادة.

بدأت كتابة سطور هذا المقال كمنشور حزين كنت أنتوى نشره على أحد مواقع التواصل الاجتماعي لأشارك أصدقائي لحظات الحنين والأنين، ولكن تزاحمت الكلمات وطالت السطور والقصاصات ولم أشعر بالوقت ولا الزمن في صخب الذكريات ومن وسط صور الأمس الذي فات، إلا وابني أمامي يحمل سلة الزينة والكور ويستدعيني أنا وأخته لنقوم بتزيين الشجرة، ونتقاتل على ترتيبها، ونتسابق في تخيل أحلامنا وكأنها حقيقة ونرفع دعواتنا لله بكل الرجاء لجل المدد ما ينهمر من السماء.

ستظل الذكريات المعطرة بالحنين والأمنيات المحملة باليقين، وحضن دافئ من ابنائي الغاليين عشية رأس السنة التي نتشاركها مهما كانوا منشغلين، برفقة التكنولوجيا التي تجمع شمل المسافرين والغائبين، نتشارك الليلة على ضوء الشجرة التي في نهاية الأمر سيكون نورها هو حلقة الوصل بين عام مضى وآخر آت..

وليبدل الله أحوالنا بفرح وطمأنينة على قدر قدرِه وبعظيم جبره، وبثقة فيما تذللنا له طوال العام من دعوات أن يجعله عام تتحقق فيه تلك الأمنيات التي انهكت في سبيلها قلباً وأزهقت خلفها سنوات مضت من العمر سهواً..

وكل عام ونحن ومن نحب طيبين، وهؤلاء القاسية قلوبهم قادر الله أن يجعلهم لينين ويهدي الظلمة لما فيه الخير للبشر آجمعين، ويحقن الدماء والدموع في كل أرجاء الأرض رددوا معي آمين.. 
وبحوله وقوته ينام الكوكب الحزين ليصحو على موكب من الأفراح وبلا أتراح ويصبح مكاناً لائقاً لكل من يرجو الله أن يمضي على الأرض بعض وقت يكون فيه المرء مرتاح، وتصدح أجراس السلام في نفوس تاقت للعدل الذي غاب عن الأنام وأن يكون العام القادم عنوانه الأمان وأحلامنا وآمالنا يأذن لها الله بأن تمضي للأمام، وإذا كان مامضى عنوانه الصبر فيا الله أجعل ما يأتي اسمه الجبر.