تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم الزكاة في المال إذا هلك بعد وجوب الزكاة فيه؟ فإني أملك مالًا قد بلغ النصاب الشرعي، غير أنَّه هلك قبل أن أُخرج زكاته؛ فهل تبقى الزكاة ثابتةً في ذمَّتي فألتزم بأدائها من مالٍ آخر، أو تسقط عنِّي بهلاكه ولا أُطالَب بها شرعًا؟
أجاب عن السؤال الدكتور نظير محمد عياد - مفتي الجمهورية وقال: تجب الزكاة إذا بلغ المال نصابًا مقداره خمسةٌ وثمانون جرامًا من الذهب عيار واحدٍ وعشرين، ومضى عليه حولٌ قمريٌّ كامل، فإن هلك المال قبل تمام الحول فلا زكاة فيه.
وتابع أمَّا إذا هلك بعد تمام الحول، فإن كان بفعل المكلَّف نفسه بتعمُّد الإتلاف مثلا، وجب عليه ضمان الزكاة، وإن كان بغير فعله -كجائحةٍ سماويةٍ أو آفةٍ عامّةٍ- وكان ذلك قبل أن يتمكن من الإخراج ولم يُفرّط، كأن تعذر وجود المستحقين، أو لم يستطع المزكي الوصول إليهم لمرض ونحوه ولم يكن مَن يُوكّله لإخراجها وإيصالها إليهم، أو لغيبة ماله -سقطت الزكاة لتعذر الأداء، وإن تمكن من الإخراج لكنه أخَّره مع قدرته عليه بأن حال الحول ووجد المستحقين وتمكن من الوصول إليهم وتوفر المال ولم يخرج؛ فإنَّه يضمنها ويطالب بها حينئذ.
حكم الزكاة إذا هلك المال قبل تمام الحول
وأوضح أن الفقهاء اتَّفقوا على أنَّ الزكاة تتكرَّر في المال النامي إذا بلغ النصابَ الشرعيَّ، وذلك بمرور كلِّ حولٍ قمريٍّ عليه؛ لتجدُّد النماء فيه عامًا بعد عام، بخلاف الزروع والثمار، فإنَّها لا تجب فيها إلَّا مرة واحدة عند الحصاد؛ إذ سبب وجوبها الخارج نفسه لا الحول، فكان الوجوب فيه غير متكرر. ينظر: "مراتب الإجماع" للإمام ابن حزم الأندلسي (ص: 38، ط. دار الكتب العلمية).
وإذا بلغ المالُ النِّصابَ فقد يعرِض له الهلاكُ، إمَّا قبل تمام الحول، أو بعد تمامه، فإن هلك قبل تمام الحول عُدَّ كالمعدوم؛ فلا زكاة فيه إن هلك كلّه، وإن هلك بعضه نُظِرَ إلى الباقي: فإن استكمل النصاب عند الحول وجبت فيه الزكاة، وإلَّا فلا، وهذا مما لا خلاف فيه.
قال أبو الطَّاهر ابنُ بشير التنوخي في "التنبيه على مبادئ التوجيه" (2/ 795، ط. دار ابن حزم): [لا خلاف أنَّ الزكاة لا تجِبُ قبل حلولِ الحَوْل، فمن ضاع ماله أو بعضُه حتى قصر عن النّصاب قبل حلُول الحول لم يتعلَّق بذمتِهِ شيء] اهـ.
وقال الإمام ابنُ بزيزة التونسي في "روضة المستبين" (1/ 445، ط. دار ابن حزم): [إذا ضاع قبْل زمانِ الوجُوب، فلا خلافَ في سقوطِ الزكاة فيه، إلَّا أن يبقى ما تجِبُ الزكاة فيه فتُعتبر بنفسه] اهـ.
حكم الزكاة إذا هلك المال بعد تمام الحول وقبل إخراج الزكاة
أمَّا إذا هلك بعد تمام الحول وقبل إخراج الزكاة، فإن كان ذلك بفعل المكلَّف نفسه؛ فلا خلاف بين الفقهاء في لزوم ضمانه لمقدار الزكاة إذا تعمَّد إتلاف المال.
قال علاء الدين السَّمرقندي في "تحفة الفقهاء" (1/ 306، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا أنَّه إذا أتْلَفَ مال الزكاة فإنَّه يضمن قدْر الزكاة] اهـ.
وأمَّا إذا وقع الهلاك بغير تسبّبٍ من المكلَّف، كجائحةٍ سماويةٍ أو آفةٍ عامّةٍ أتلفت المال، فإنَّ المزكّي غيرُ مسؤولٍ عنه؛ إذ لا يدَ له فيه، وحينئذٍ جرى الخلاف بين الفقهاء، وهو مبنيٌّ على اختلافهم في كون الزكاة واجبةً في العين أم في الذمَّة، أم في الذمَّة والعينُ مرتهنةٌ بها. ينظر: "البحر الرائق -مع منحة الخالق وتكملة الطوري-" لزين الدين ابن نجيم (2/ 235، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وذهب الحنفية إلى أنَّ هلاك المال بعد وجوب الزكاة يُسقط الواجب مطلقًا سواء تمكَّن من الأداء أو لم يتمكن؛ فإن هلك جميعه سقطت الزكاة بالكلية، وإن هلك بعضه سقط من الواجب بقدره.
قال الإمام فخر الدين الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (1/ 269، ط. الأميرية -مع حاشية الشِّلبِي-): [قال رحمه الله: (و) لا (الهالك بعْد الوجُوبِ) أي: لا تجِبُ الزكاة في مال هَلَكَ بعدما وجبت الزكاة فيه، ولو هلك بعضُه سقطت عنه بحسابه] اهـ.
وقال العلامة الشِّلبِي محشيًا عليه: (قوله: في مال هَلَكَ بعدما وجبتِ الزكاةُ فيه) سواء تمكَّن من الأداء أو لم يتمكن] اهـ.
وذهب المالكية والشافعية إلى سقوط الزكاة بهلاك المال قبل التمكّن من الأداء ولم يكن ثمة تفريط، كأن تعذر وجود المستحقين، أو لم يستطع المزكي الوصول إليهم لمرض ونحوه ولم يكن من يوكله على إخراجها وإيصالها إليهم، أو لغيبة ماله، فإن فرَّط مع تمكُّنه من الأداء، كأن حال الحول أو حان وقت الحصاد ووجد المستحقين وتمكن من الوصول إليهم وتوفر المال ولم يُخرج؛ ضَمِن مطلقًا وطُولب بالزكاة.
قال الشَّيخ الدردير المالكي في "الشرح الكبير" ومعه "حاشية الدسوقي" (1/ 503، ط. دار الفكر): [(وإن تَلِفَ جزءُ نصابٍ) بلا تفريطٍ بعد الحَوْلِ، وأوْلى جميعُه (و) الحال أنه (لم يُمكِن الأداءُ) منه: إمَّا لعدم مستحق أو لعدم الوصول إليه أو لغيبة المال (سَقَطَتْ) الزكاة، فإن أمكن الأداء وفرَّط ضمِن] اهـ.
قال العلامة الدسوقي محشيًا عليه: [(قوله: وإن تَلِفَ جزءُ نصابٍ) أي: بحيث صار الباقي أقلَّ مِن نصاب] اهـ.
وقال العلامة الخطيبُ الشربيني الشافعي في "الإقناع" ومعه "حاشية البجيرمي" (2/ 368، ط. دار الفكر): [فإنْ أخَّر أداءَها وتَلِفَ المالُ ضَمِنَ] اهـ.
قال العلامة البجيرمي محشيًا عليه: [قوله: (وضَمِنَ) أي: حقَّ المستحقين أي: بأن يدفع ما كان يدفعُه عند وجودِ المال، وهذا بعد التمكُّن، أما قبله فلا ضمانَ، وهذا في التلف] اهـ.
وذهب الحنابلة في المشهور إلى أنَّ الزكاة إذا وجبت في المال فإنَّها لا تسقط ولو هلك المال بعد ذلك، سواء كان الهلاك بتفريط من صاحبه أو بغير تفريط؛ لأنَّ الزكاة بعد الوجوب صارت حقًّا ثابتًا في ذمته كالدَّين، فلا يزول بزوال المال، بخلاف الزروع والثمار، فالزكاة فيها تتعلق بعين المحصول نفسه، ولهذا تسقط إذا أتت عليها جائحة قبل الحصاد أو قبل أن تستقر بعد الجذاذ.
وقال الإمام شمس الدين ابن قدامة في "الشرح الكبير" (6/ 377-378، ط. دار هجر): [المشهور عن أحمد أنَّ الزكاة لا تسقط بتلف المال، سواء فرط أو لم يفرط] اهـ.
وأضاف الشَّيخ أبو السعادات البُهُوتي في "كشاف القناع" (2/ 210، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا تسقُط بتَلَفِ المالِ)؛ لأنَّها عينٌ تلزمه مؤنةُ تسليمها إلى مستحقِّيها، فضمِنها بتلفها في يدِهِ، كعارية وغصب، وكدين الآدمي فلا يعتبر بقاءُ المال (إلَّا الزرع والثمر، إذا تَلِفَ بجائحةٍ قبْل حصادٍ وجُذاذٍ) أو بعدهما قبل وضع في جرين ونحوه؛ لعدم استقرارها قبل ذلك] اهـ.
المختار للفتوى في حكم الزكاة إذا هلك المال بعد وجوب الزكاة فيه
وأوضح أن المختار للفتوى ما ذهب إليه المالكية والشافعية من سقوط الزكاة بهلاك المال إذا لم يكن هناك تفريطٌ في المبادرة إلى إخراجها؛ إذ المقصود من الزكاة تحقيقُ المواساة بين الأغنياء والفقراء، وهذه المواساة إنَّما تتحقق بوجود المال النامي الذي هو محلُّها، فإذا فات المحلُّ بغير تعدٍّ ولا تقصيرٍ من المكلَّف سقط الوجوب لانتفاء علَّته؛ إذ الحكم يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا فيتغير بتغير العلة. ينظر: "تشنيف المسامع بجمع الجوامع" لبدر الدين الزركشي (3/ 54، ط. مكتبة قرطبة).
ثمَّ إنَّ إبقاء الواجب في ذمته بعد ذهاب المال يُفضي إلى تحميله ما لم يقدر عليه، وفي ذلك من الحرج والمشقَّة ما نُفي عن الأمة بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، فكان القول بالسقوط مع عدم التفريط أليق بمقاصد الشرع وأقرب إلى روح التيسير والعدل.


