نظَّم مركز الإمام الليث بن سعد لفقه التَّعايُش، ورشة علمية بعنوان: "التعايش السلمي في مواجهة توظيف النُّصوص لإشعال الحروب"؛ وذلك بمشاركة نُخبة من القيادات الدينية والفكرية والأكاديمية وممثلي المؤسسات الدينية والإعلامية من داخل مصر وخارجها.
جاء ذلك برئاسة الشيخ موسى سعيدي، رئيس المجلس الإسلامي الأعلي بدولة زامبيا، والشيخ أحمد بسيوني، مدير مركز الإمام الليث بن سعد لفقه التعايش أمينًا للسر، وضِمن أعمالِ الندوة الدولية الثانية للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم.
وتهدف الورشةُ، إلى تفكيك آليات استغلال النُّصوص الدينية في تبرير العُنف والصراعات، وبيان المنهج العلمي الرشيد في فهم النُّصوص وربطها بمقاصدها الكُليَّة وسياقاتها الواقعية، وتسليط الضوء على الجذور الفكرية لأدلجةِ النصوص، وتحليل أنماط القراءات المنحرفة، ودور المؤسسات الدينية والإعلامية في مواجهة خطاب الكراهية، مع إبراز النماذج الشرعية والتاريخية للتعايُش وسبل الانتقال من التَّنظير إلى التطبيقِ، بما يُعزِّز الأمن الفكري والاستقرار المجتمعي.
رئيس المجلس الإسلامي في زامبيا: التعايُش السلميُّ ليس شعارًا أخلاقيًّا بل ضرورة وجودية
وافتتح أعمالَ الورشةِ، الشيخ موسى سعيدي، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي بزامبيا، ورئيسُ الجلسة؛ مؤكدًا أن التعايشَ السلمي يمثِّل قاعدةً أساسية لاستقرار المجتمعات، وأن الخَلَلَ لا يَكمُن في النصوص، وإنما في سوءِ توظيفها خارجَ أطُرِها العلمية؛ مشددًا على أن الورشةَ تستهدف الخروجَ بحلول عمليَّةٍ قابلةٍ للتطبيق، مشيدًا بدَور دار الإفتاء المصرية في ترسيخ خطابِ الاعتدال. ووجَّه الشكرَ لقيادة الدولة المصرية، ولفضيلة مفتي الجمهورية، ولكافة المشاركين بالنَّدوة، داعيًا إلى تكاتُف الجهود من أجلِ تعزيز ثقافة التعايُش والسلام.
من جانبه، أكَّد الأنبا إرميا، الأسقفُ العامُّ ورئيسُ المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، أن الإنسان خُلِق خليفةً في الأرض، وأن الأديان السماوية جميعها جاءت لتحقيق السلام وصيانة التنوُّع الإنسانيِّ؛ موضحًا أن السلامَ قيمةٌ إلهيَّة أصيلة، وأن النصوص الدينية تهدفُ إلى هداية الإنسان لا إلى تدميرِه، وأن الأزمة الحقيقيةَ تكمُن في القراءة الانتقائيَّة للنصوص وإخراجها من سياقاتها وتغييب مقاصد حفظِ النَّفس. وشدَّد على أن التعايُشَ أصلٌ راسخٌ في الشريعة الإسلامية، كما أثبتتها التجربةُ التاريخيةُ، وأن رسالةَ الدِّين موجهةٌ إلى الإنسانية جمعاء بوصفها رسالةَ رحمةٍ ومحبةٍ.
وأشار الشيخُ أحمد ترك، رئيس اللجنة الدينية بمجلس الشُّيوخ، إلى أن الفهمَ الدينيَّ يتأثر بوعي المتلقِّي؛ محذرًا من القراءات المتشددة التي استُخدمت تاريخيًّا في خدمة مشاريع سياسية واستعمارية، مؤكدًا أن بعض الجماعات وظَّفت النصوص لنزعِ الانتماءِ الوطنيِّ ونشر ثقافة الصراع، وأن الأزمةَ الراهنة تتجلَّى في ضعفِ وُصول المؤسسات الدينية إلى الشبابِ وانتشار خطابِ الإقصاء عبرَ المنصات الرقميَّة.
من جهته، أوضح الدكتورُ رضا عبد الواحد أمين، عميدُ كلية الإعلام بجامعة الأزهر، أن خطورةَ توظيف النُّصوص تضاعفتْ في عصر الإعلام الرقمي، الذي أتاح انتشارَ الأفكار المتطرفة بسرعة غير مسبوقة؛ مشيرًا إلى أن الخطابَ الدينيَّ المعاصر يواجِهُ انحرافَيْن متناقضَيْن هما: التشدُّد والتَّمْيِيع، وكلاهما يعبثُ بوعيِ الشَّباب، داعيًا إلى بناءِ إستراتيجياتٍ واضحةٍ للوعيِ، وإعادةِ تأهيل بعضِ المتصدِّرين للمجالِ العامِّ.
وفي مداخلته، أكد الدكتورُ سيمور نصيروف، رئيسُ الجالية الأذربيجانية في مصر، أن الإنسانيةَ جميعها في مركبٍ واحد، وأن مواجهةَ التَّحديات المشتركة لا تتحقَّقُ إلا بالتكامُلِ ونبْذِ الفرقة، مستعرضًا تجربة أذربيجان في إدارة التعدُّد القومي والديني. وأكَّد أن التعايشَ لا يقوم على الشِّعارات؛ بل على قراراتٍ حاسمةٍ تحمي الأمنَ المجتمعيَّ، وعلى الربطِ الواعِي بين فَهمِ النصِّ وإدراكِ الواقع.
وتناوَل الأستاذُ الدكتور محمد مهنا، أستاذُ القانون الدولي بجامعة الأزهر، قضيةَ أدلجةِ النُّصوص من زاوية العلاقةِ بين اللَّفظ والمعنى والعقلِ والنَّقلِ؛ مؤكدًا أن الفقهَ الحقَّ هو القادرُ على النُّهوض بالواقعِ نحوَ مقاصد الحقِّ والعدلِ، وأن بناءَ خطابٍ دينيٍّ رشيدٍ يقتضي تأهيلَ طلاب العلم لإدراكِ النصِّ والواقعِ والإنسانِ معًا.
في حين أكَّد القسُّ أمين مجدي، راعي الكنيسة الإنجيلية بمدينة السادس من أكتوبر، على أهمية إعادةِ ترتيبِ الأولويَّات في الخطاب الدِّيني، والتركيز على القِيَم الكبرى للسلام والمحبة بدلًا من استنزافِ الجهد في قضايا فرعيَّةٍ لا تخدم جوهرَ الرسالة الدينية.
الورداني: الجماعاتُ المتطرفةُ أتقنت قراءات المظلومية والكراهية والثأر لتصنيع الصِّدام
واستعرض الدكتور عمرو الورداني، عضو الهيئة الاستشارية العُليا وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أنماطًا متعددةً من القراءات المنحرفة التي استخدمتها الجماعاتُ المتطرِّفةُ لإشعال الصِّراعات، وفي مقدمتها قراءةُ المظلوميَّة والكراهية والثأر وتقديسُ الرُّموز.
وأوضح الدكتور عمرو الورداني، أن هذه القراءات تصنع حتميَّة الصِّدام، بينما يفرضُ الواقعُ تبنِّيَ خطابٍ يُعيد التوازنَ بين الدِّين والحياة ويؤسِّس لثقافة السلام.
وأكد الدكتورُ إبراهيم شعبان المرشديُّ، مدير عام الإرشاد الديني بوزارة الأوقاف، أنَّ تشخيصَ جُذور المشكلة يُمثِّل خُطوةً أساسيةً في مواجهتها؛ محذرًا من التقليلِ من خطورة الفكر المتطرِّفِ الذي تسلَّل إلى بعضِ البيئات المجتمعيَّة نتيجةَ غيابِ المواجهة الفكرية المباشرة، داعيًا إلى تطويرِ خطابٍ دينيٍّ معاصرٍ يستلهمُ التراثَ ويخاطبُ تحدياتِ العصر.
وفي السياقِ، أوضحَ الدكتور رضا الدقيقيُّ، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، أن التعايُشَ بين أتباع الدِّيانات المختلفة قيمةٌ متجذِّرة في الفكر الإسلامي، وليس نتاجَ ضغوطٍ سياسية؛ مستشهدًا بالنصوص القرآنية والسُّنة النبوية والنماذج التاريخية للتعدُّدية الدينية. وأكد أن الإسلامَ أرسَى مبكرًا أُسُسَ التعايُشِ والعدلِ، وأن استدعاءَ هذه القِيَم ضرورةٌ لمواجهة الخطابات المتطرِّفة.
كما أكد الدكتورُ محمد شعبان، أستاذُ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، أن توظيفَ النُّصوصِ في الحروب ظاهرةٌ عابرةٌ للأديان، وأن الإشكاليةَ تكْمُن في الخلطِ بين الواقعِ والمأمُول، وهو ما تستغلُّه الجماعاتُ المتطرِّفة بإخراجِ النُّصوص من سياقاتها، مشيرًا إلى ضرورةِ تحديدِ المسؤوليات بين الخطابِ الدِّيني والسياسيِّ في هذا الملف.
وأشار الدكتور محمد عبد الواحد كامل، الباحث في الفقه وأصوله، إلى أن غالبيةَ النَّاس تنفرُ من التطرُّف بطبيعتها، إلا أن ارتفاعَ صوتِ المتشدِّدين أحدَثَ تشويشًا عامًّا؛ لافتًا إلى أن المواجهةَ تقتضي النُّزولَ إلى الناسِ وفهمَ واقعِهم وتفعيلَ فقهِ المصلحة في الأحكام غيرِ التعبُّدية، محذرًا من أن الأدلجةَ لا تستقيمُ مع العلم الرصين.
وأوضح الدكتورُ مايكل مدحت أستاذُ الفلسفة بجامعة حلوان في مداخلته، مسألةَ التأويل العنيف؛ بوصفِه شكلًا من أشكال العُنف الرمزي ضدَّ النص والسياق، لافتًا الانتباه إلى أن هذا النمط يدَّعِي امتلاكَ الحقيقةِ المطلقةِ، ويُقصي الآراءَ الأخرى، وحذَّر من دَوْر بعض المنصَّات الرقمية في صناعة رموز مقدسةٍ زائفةٍ تُضعِف القدرةَ على التفكير النَّقدي.
ورأى الأستاذُ عمرو فاروق، الصحفيُّ المتخصص في شؤون الجماعات الدينية، أن التنظيماتِ المتطرفةَ تعملُ وفقَ استراتيجياتٍ دقيقةٍ ومتغيرةٍ، وأن اختفاءَ بعضِ الكيانات التقليدية قابَلَهُ صعودٌ قويٌّ للحضور الرقمي، الذي أعاد إنتاجَ الفكر المتشدد بصورةٍ أكثر خطورة، مؤكدًا ضرورةَ تبنِّي إستراتيجيات تُخاطب الإنسانَ البسيط وتعزِّزُ الأمنَ الفكريَّ وتُعيد الثقةَ في المؤسسات الدينية.
وفي تعقيبِه، أكَّد الأنبا إرميا، أن الخلطَ بين الدين والحركات السياسية يُمثِّل خطرًا كبيرًا، موضحًا الفارقَ بين اليهودية والصهيونية، وشدَّد على أن النصوصَ الدينية لا يُمكن أن تكون مبررًا للقتل أو العنف عند فهمِها في سياقِها الصحيح.
وأكد الدكتورُ مصطفى عبد الكريم، أمينُ الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أنَّ هناك فرقًا جوهريًّا بين فهم النصِّ وتطبيقه، مستعرضًا نماذجَ نبوية راشدة في التعامل مع الآخر، مؤكدًا ضرورةَ الالتزام بالضوابط العلمية عند استدعاءِ هذه النماذج في الواقعِ المعاصرِ.
من جهته، دعا الدكتورُ مصطفى الأقفهصي، أمينُ الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إلى الانتقالِ من مرحلةِ التشخيصِ إلى الحُلول العمليَّةِ، والنزول إلى الشارعِ بفكرٍ معاصرٍ مرنٍ قادرٍ على التعامُل مع اختلاف البيئاتِ والسياقاتِ دون التفريطِ في الثَّوابتِ.
وأكدت الأستاذةُ وسام الخولي، الباحثة بدار الإفتاء المصرية، أن قضيةَ التَّعايُش تعدُّ من أبرز قضايا العصر، وأن رفعَ الوعيِ المجتمعيِّ وإعادة الجمهور إلى المؤسسات الدينية والمصادر المعتبرة يمثلان مدخلًا أساسيًّا لمواجهة الخطاب المتشدِّد.
وقدمت الدكتورةُ زينب محمد السعيد، أمينةُ الفتوى بدار الإفتاء المصرية، عددًا من المقترحات العملية، من بينها ترسيخُ المنهج العلمي في الاستدلالِ ومراعاة الزَّمان والمكان في الفتوى، والتأكيدُ على أن التَّعايُش لا يعني التفريطَ في العقيدة، بل احترام التنوُّع مع إبرازِ الدَّور المحوريِّ للعلماء والخطاب الإعلامي في دعمِ الفهمِ الوسطي.
وفي ختام أعمال الورشة أكَّد المشاركون أن التَّعايُشَ السِّلميَّ أصلٌ دينيٌّ وإنسانيٌّ راسخٌ، وأن توظيفَ النصوص الدينية لإشعال الحروب يُمثِّل انحرافًا خطيرًا عن مقاصد الشرائع السماوية، واتفقوا على أن مواجهةَ هذه الظاهرة تتطلب جهدًا عِلميًّا ومؤسسيًّا متكاملًا، يقوم على تصحيحِ مناهج الفهم وضبط الخطاب الديني، وتكامل أدوار المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، والانتقال من التشخيصِ إلى الحلول العَمَلِيَّة بما يُسهم في تحصينِ المجتمعات وصَوْنِ قدسيَّةِ النصوص وترسيخ ثقافةِ السلام والتعايُشِ.

