في يومٍ لم يكن يجرؤ أشد المتفائلين على تخيله قبل عامين، فتحت دمشق أبواب "قصر الشعب" لاستقبال وفد تركي رفيع المستوى، في مشهد كسر عقوداً من الجمود والعداء.
المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني مع نظيره التركي هاكان فيدان، لم يكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل كان إعلاناً رسمياً عن ولادة "محور أمني واقتصادي" جديد في قلب المشرق العربي.
هذا اللقاء، الذي يأتي في الذكرى السنوية الأولى لتشكيل الإدارة السورية الجديدة، يثبت أن دمشق استعادت مركزيتها كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، وأن أنقرة قررت أخيراً أن أمنها القومي يمر عبر البوابة السورية الرسمية.
وحدة المصير ضد "الانفصال" و"الاعتداء"
كانت الرسالة الأقوى في المؤتمر هي "وحدة الموقف" تجاه التهديدات المشتركة. فقد تحدث فيدان بلغة حازمة، غير معهودة تجاه حلفاء بلاده السابقين، حيث انتقد بشدة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لرفضها الاندماج في هياكل الدولة السورية بموجب "اتفاق 10 آذار".
هذا التناغم السوري التركي يضع المجموعات الكردية أمام خيارين أحلاهما مر: إما الذوبان في كنف الدولة المركزية في دمشق، أو مواجهة كماشة عسكرية مشتركة.
كما شكّل التنديد المشترك بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية غطاءً سياسياً لدمشق، حيث أكدت تركيا أن استقرار الدولة السورية وسيادتها هما الضمان الوحيد لمنع تمدد الفوضى الإقليمية التي تذكيها النزعات التوسعية الإسرائيلية.
الاقتصاد.. المحرك الخفي للتحالف
خلف الشعارات السياسية، كانت "لغة الأرقام" حاضرة بقوة.
فإعلان الوزير الشيباني عن ترحيب سوريا بالاستثمارات التركية يأتي في لحظة اقتصادية فارقة، تزامنت مع قرار واشنطن التاريخي بإلغاء "قانون قيصر".
هذا الإلغاء لم يكن مجرد رفع لعقوبات، بل كان بمثابة "ضوء أخضر" للشركات التركية العملاقة للدخول في ورشة إعادة الإعمار الكبرى.
ومن المتوقع أن تشهد الشهور القادمة تدفقاً لرؤوس الأموال التركية لإعادة تأهيل قطاعات الكهرباء والمياه والبنية التحتية، مقابل تسهيلات تجارية سورية تجعل من دمشق معبراً أساسياً للبضائع التركية نحو الخليج والأردن، مما يحقق مصلحة متبادلة تُخرج البلدين من أزماتهما الاقتصادية الخانقة.
ملف اللاجئين: العودة بكرامة لا بالإكراه
لم يغب البعد الإنساني عن طاولة المفاوضات، حيث كشف الوزيران عن خطة مشتركة لإعادة اللاجئين السوريين من تركيا.
الرؤية الجديدة لا تعتمد على الترحيل القسري، بل على خلق بيئة جاذبة في الداخل السوري عبر مشاريع سكنية وتنموية تشرف عليها دمشق بتمويل ودعم تقني تركي.
هذا المسار "الطوعي والكريم" يهدف إلى إغلاق ملف شائك استُخدم طويلاً كأداة ضغط سياسي، ويمنح الإدارة السورية الجديدة شرعية شعبية ودولية كبرى، بينما يريح الحكومة التركية من ضغوط الداخل السياسية المرتبطة بهذا الملف.
إن ما حدث في دمشق اليوم هو انتصار لـ "البراغماتية السياسية" على الأيديولوجيا.
لقد أدركت أنقرة أن الرهان على تغيير النظام بالقوة قد ولى، وأن التعامل مع "أحمد الشرع" وإدارته هو السبيل الوحيد لتأمين حدودها الجنوبية.
وبالمقابل، أدركت دمشق أن إعادة الإعمار وبسط السيادة على كامل التراب الوطني يتطلبان تفاهمات كبرى مع الجار الشمالي القوي.
هذا المؤتمر الصحفي هو حجر الأساس لنظام إقليمي جديد، حيث تصبح مصلحة الدولة واستقرارها فوق كل اعتبار، مما يمهد الطريق لشرق أوسط أكثر استقراراً، تقوده تحالفات إقليمية تنبع من حاجة الشعوب للأمن والخبز قبل أي شيء آخر