في لحظة فارقة سجلها التاريخ الأممي، تحولت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين إلى مسرح صامت للاحتجاج، عندما انسحبت عشرات الوفود الرسمية في 26 سبتمبر 2025 لحظة صعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى منصة الخطاب.
لم يكن مجرد انسحاب بروتوكولي، بل رسالة سياسية وأخلاقية صاخبة، عكست رفضا عالميا متصاعدا لمنح من يتهم بارتكاب جرائم حرب شرعية الظهور على أهم منبر دولي.
وقال الدكتور جهاد أبو لحية أستاذ القانون والنظم السياسية، إن شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين مشهدا غير مسبوق في 26 سبتمبر 2025، حينما غادر عشرات الوفود الرسمية القاعة الأممية بمجرد صعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى منصة الخطاب، كانت تلك اللحظة صامتة لكنها بليغة، إذ مثلت إدانة جماعية لجرائم موثقة، من بينها قتل المدنيين والأطفال في غزة، واستخدام التجويع كسلاح حرب، والتي شكلت محورا للتحقيقات الدولية منذ أواخر عام 2023.
وأضاف أبو لحية- خلال تصريحات لـ "صدى البلد"، أن جاء هذا الموقف بعد نحو عشرة أشهر من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق نتنياهو وعدد من قادة جيشه في 21 نوفمبر 2024، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الإبادة الجماعية وفرض سياسات أدت إلى حرمان ملايين المدنيين الفلسطينيين من الغذاء والدواء، ورغم الطابع الإلزامي للمذكرة بالنسبة إلى الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، سمح لنتنياهو باعتلاء المنصة الأممية، ما أظهر التناقض القائم بين شعارات الأمم المتحدة وممارساتها الواقعية.
وأشار أبو لحية: "لكن الأكثر رمزية جاء من رد الفعل الدولي، فقد انسحبت وفود عربية وأفريقية وأميركية لاتينية وأوروبية في مشهد غير مألوف، عكس رفضا لمنح شرعية سياسية وأخلاقية لشخص متهم بجرائم جسيمة، وصورت وسائل الإعلام العالمية القاعة الأممية وهي شبه خالية أثناء إلقاء نتنياهو كلمته، لتتحول إلى صورة أيقونية تجسد عزلة سياسية وأخلاقية غير مسبوقة لزعيم الاحتلال الإسرائيلي".
وتابع: " ويكتسب هذا الموقف وزنه بالنظر إلى السياق الأوسع للدورة الثمانين، حيث كانت الولايات المتحدة قد منعت الوفد الفلسطيني الرسمي من الحصول على تأشيرات دخول لحضور الاجتماعات في نيويورك، في انتهاك واضح لاتفاقية مقر الأمم المتحدة لعام 1947، ما اضطر الجمعية العامة للتصويت بأغلبية ساحقة للسماح للرئيس محمود عباس بإلقاء كلمته عبر الفيديو، هذا التلاقي بين حرمان الضحية من المنبر وتمكين من يشتبه في ارتكابه جرائم حرب من استخدامه يعكس اختلالا أخلاقيا وقانونيا يهدد مصداقية الأمم المتحدة".
وأضاف: "لقد حمل الانسحاب الجماعي دلالات متعددة، ومنها: أولا، أنه رفض صريح لتبييض الانتهاكات واعتراف ضمني بضرورة محاسبة المسؤولين عنها، ثانيا، أنه يكرس دور الجمعية العامة كمنبر للضمير الإنساني، رافض لمنح الشرعية لمن يواجه اتهامات دولية، وثالثا، أنه أعاد التأكيد على أن القوة الأخلاقية للدبلوماسية الجماعية يمكن أن تعيد التوازن إلى نظام دولي يعاني أحيانا من هيمنة السياسة على القانون".
واختتم: "رغم أن الانسحاب لا يُغني عن تنفيذ القرارات القضائية أو مساءلة الجناة أمام المحاكم الدولية، إلا أنه يمثل شكلا من أشكال المساءلة العلنية ويبعث برسالة أمل إلى الضحايا الفلسطينيين بأن العالم لا يزال يملك أدوات رمزية وسياسية للضغط من أجل العدالة".
الجدير بالذكر، أن هذا المشهد غير المسبوق، الذي وثقته الكاميرات وأبرزته وسائل الإعلام العالمية، كشف عن عزلة سياسية وأخلاقية غير معهودة لزعيم دولة الاحتلال، في وقت لا تزال فيه الاتهامات الموجهة إليه من المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، تشكل محور تحقيقات دولية متواصلة.
ويثير هذا الحدث ضرورة التفكير في إصلاحات مؤسسية تضمن انسجام قواعد المشاركة في الأمم المتحدة مع متطلبات احترام القانون الدولي الإنساني، فليس من المنطقي أن يحرم ممثلو شعب واقع تحت الاحتلال من حضور المنبر الأممي.